الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة

فمن الحوادث فيها [مسير خالد إلى العراق وصلح الحيرة]

لما فرغ خالد من أمر اليمامة كتب إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو مقيم باليمامة: إني قد وليتك حرب العراق ، فاجسر على من ثبت على إسلامه] وقاتل أهل الردة ، ممن بينك وبين العراق من تميم وأسد وقيس وعبد القيس ، وبكر بن وائل ، ثم سر نحو فارس فادخل بهم العراق من أسفلها ، فابدأ بفرج الهند ، وهي يومئذ الأبلة ، وكان صاحبها بساحل أهل السند والهند في البحر ، وبساحل العرب في البر ، فسار في المحرم إلى أرض الكوفة وفيها المثنى بن حارثة الشيباني ، وجعل طريقه البصرة ، وفيها قطبة بن قتادة السدوسي .

قال الواقدي: من الناس من يقول: مضى خالد من اليمامة إلى العراق ، ومنهم من يقول: رجع من اليمامة فقدم المدينة ثم سار إلى العراق ، فمر على طريق الكوفة حتى انتهى إلى الحيرة .

وروى ابن إسحاق ، عن صالح بن كيسان: أن أبا بكر رضي الله عنه كتب إلى خالد يأمره أن يسير إلى العراق ، فمضى خالد يريد العراق حتى نزل بقريات من [ ص: 98 ] السواد ، يقال [لها] : بانقيا وباروسما وأليس ، فصالحه أهلها ، وكان الذي صالحه عليها ابن صلوبا ، وذلك في سنة اثنتي عشرة ، فقبل منهم خالد الجزية ، وكتب لهم كتابا فيه:

"بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد لابن صلوبا السوادي - ومنزله بشاطئ الفرات - إنك آمن بأمان الله - إذ حقن دمه بإعطاء الجزية - وقد أعطيت عن نفسك وعن أهلك خرجك وجزيرتك ومن كان في قريتك ألف درهم فقبلتها منك ورضي من معي من المسلمين بها منك ، ولك ذمة الله وذمة محمد صلى الله عليه وسلم وذمة المسلمين على ذلك . وشهد هشام بن الوليد .

ثم أقبل خالد بن الوليد بمن معه حتى نزل الحيرة ، فخرج إليه أشرافهم مع قبيصة بن إياس الطائي ، وكان أمره عليها كسرى بعد النعمان بن المنذر ، فقال له خالد ولأصحابه: أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام ، فإن أجبتم إليه فأنتم من المسلمين ، لكم ما لهم وعليكم ما عليهم ، فإن أبيتم فالجزية ، فإن أبيتم فقد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة ، فنجاهدكم حتى يحكم الله بيننا وبينكم .

فقال له قبيصة بن إياس: ما لنا بحربك من حاجة بل نقيم على ديننا ونعطيك [الجزية] ، فصالحهم على تسعين ألف درهم ، فكانت أول جزية وقعت بالعراق هي والقريات التي صالح عليها ابن صلوبا .

وقال هشام بن الكلبي: إنما كتب أبو بكر إلى خالد وهو باليمامة أن يسير إلى الشام ، وأمره أن يبدأ بالعراق فيمر بها ، فأقبل خالد يسير حتى نزل النباج .

[قال: وقال أبو مخنف: حدثني حمزة بن علي ، عن رجل من بكر بن وائل]:

أن المثنى بن حارثة سار حتى قدم على أبي بكر رضي الله عنه ، فقال: أمرني على من قبلي من قومي ، أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي ، ففعل ذلك ، فأقبل [ ص: 99 ] يجمع قومه وأخذ يغير ناحية كسكر مرة ، وفي أسفل الفرات مرة ، ونزل خالد بن الوليد النباج والمثنى بن حارثة [بخفان] معسكر ، فكتب إليه خالد بن الوليد ليأتيه ، وبعث إليه بكتاب من أبي بكر رضي الله عنه يأمره فيه بطاعته ، فانقض إليه [جوادا] حتى لحق به .

فأقبل خالد يسير ، فعرض له جابان صاحب أليس ، فبعث إليه المثنى بن حارثة ، فقاتله فهزمه ، وقتل جل أصحابه ، إلى جانب نهر ، فدعي نهر دم لتلك الوقعة ، وصالح أهل أليس ، وأقبل حتى دنا من الحيرة ، فخرجت إليه خيول آزاذبه صاحب خيل كسرى التي كانت في مسالح ما بينه وبين العرب ، فلقوهم بمجتمع الأنهار ، فتوجه إليهم المثنى بن حارثة ، فهزمهم [الله] .

ولما رأى ذلك أهل الحيرة خرجوا يستقبلونه ، فيهم عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة ، وهاني بن قبيصة ، فقال خالد لعبد المسيح: من أثرك؟ قال: من ظهر أبي ، قال: من أين خرجت؟ قال: من بطن أمي ، قال: ويحك على أي شيء أنت؟ قال: على الأرض ، قال: ويلك في أي شيء أنت؟ قال: في ثيابي ، قال: ويحك ، تعقل؟ قال:

نعم وأقيد ، قال: إنما أسألك ، قال: وأنا أجيبك ، قال: أسلم أنت أم حرب؟ قال: بل سلم ، قال: فما هذه الحصون التي أرى؟ قال: بنيناها للسفيه نحبسه حتى يجيء الحليم فينهاه ، قال خالد: إني أدعوكم إلى الإسلام ، فإن أبيتم فالجزية ، وإن أبيتم [ ص: 100 ] قاتلتكم ، قالوا: لا حاجة لنا في حربك ، فصالحهم على تسعين ومائة ألف درهم ، فكانت أول جزية حملت إلى المدينة من العراق .

وفي رواية أخرى: أن عبد المسيح لما حضر عند خالد وجد معه شيئا يقلبه في كفه ، فقال: ما هذا؟ قال: سم ، قال: وما تصنع به؟ قال: إن كان عندك ما يوافق قومي حمدت الله وقبلته ، وإن كانت الأخرى لم أكن أول من ساق إليهم ذلا أشربه وأستريح من الحياة ، قال: هاته . فأخذه خالد ، وقال: بسم الله ، وبالله رب الأرض والسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء ، ثم أكله فجللته غشية ، ثم ضرب بذقنه صدره طويلا ثم عرق وأفاق كأنما نشط من عقال ، فرجع ابن بقيلة إلى قومه ، فقال: جئتكم من عند شيطان أكل سم ساعة فلم يضره فصانعوا القوم وادرءوهم عنكم فإنهم مصنوع لهم ، فصالحوهم على مائة ألف درهم .

[قال مؤلف الكتاب]: وهذا عبد المسيح هو ابن عمرو بن قيس بن حبان بن بقيلة ، واسم بقيلة ثعلبة ، وقيل: الحارث ، وإنما سمي بقيلة ، لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين ، فقالوا: ما أنت إلا بقيلة . وعاش عبد المسيح ثلاثمائة وخمسين سنة ، وكان نصرانيا ، وخرج بعض أهل الحيرة يخط ديرا في ظهرها ، فلما حفر وأمعن وجد كهيئة البيت ، ووجد رجلا على سرير من زجاج وعند رأسه كتابة: أنا عبد المسيح بن بقيلة ومكتوب بعده:


حلبت الدهر أشطره ، حياتي ونلت من المنى فوق المزيد     وكافحت الأمور وكافحتني
ولم أجعل بمعضلة كؤود     وكدت أنال في الشرف الثريا
ولكن لا سبيل إلى الخلود

روى مجالد ، عن الشعبي: أقرأني بنو بقيلة كتاب خالد إلى أهل المدائن:

"من خالد بن الوليد إلى مرازبة أهل فارس سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد [ ص: 101 ] فالحمد لله الذي سلب ملككم ، ووهن كيدكم ، وإنه من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم الذي له ما لنا وعليه ما علينا أما بعد ، فإذا جاءكم كتابي هذا فابعثوا إلي [بالرهن] بالتي هي أحسن ، واعتقدوا مني الذمة ، وإلا فوالذي لا إله غيره لأبعثن إليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة .

فلما قرءوا الكتاب أخذوا يتعجبون ، وذلك في سنة اثنتي عشرة .

قال الشعبي: ولما فرغ خالد من اليمامة ، كتب إليه أبو بكر رضي الله عنه: إن الله فتح عليك فعارق حتى تلقى عياضا . وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين النباج والحجاز: أن سر حتى تأتي المصيخ فابدأ بها ، ثم ادخل العراق من أعلاها ، وعارق حتى تلقى خالدا . وأذنا لمن شاء بالرجوع ، [ولا تستفتحا بمتكاره] .

فلما أذنا للناس ارفضوا ، فاستمد خالد أبا بكر رضي الله عنه ، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي وحده ، فقيل أتمده برجل واحد ، فقال: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا ، فأمد عياضا بعبد بن عمرو الحميري ، وكتب إليهما أن استنفرا من قاتل أهل الردة ، ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يغزون معكم أحد ارتد حتى أرى رأيي ، فلم يشهد الأيام مرتد .

فقدم خالد الأبلة وحشر من بينه وبين العراق ، فلقي هرمز في ثمانية عشر ألفا ، وكتب خالد إلى هرمز: أما بعد ، وأسلم تسلم ، واعقد لنفسك ولقومك الذمة ، وأقرر بالجزية ، وإلا فلا تلومن إلا نفسك ، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة .

وقال المغيرة بن عيينة وهو قاضي الكوفة: فرق خالد مخرجه من اليمامة إلى العراق جنده ثلاث فرق ، ولم يحملهم على طريق واحدة ، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر ، وسرح عدي بن حاتم ، وعاصم بن عمرو ودليلهما [مالك] بن عباد ، [ ص: 102 ] وسالم بن نصر ، أحدهما قبل صاحبه بيوم ، وخرج ودليله رافع ، فوعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا به وليصادفوا عدوهم ، وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة ، وكان صاحبه يحارب العرب في البر والهند في البحر . ولما قدم كتاب خالد على هرمز ، كتب بالخبر إلى شيري بن كسرى ، وإلى أردشير بن شيري ، وجمع جموعه وتعجل وجعل على مجنبتيه قباز والنوشجان ، ونزلوا على الماء ، فجاء خالد ، فقال لأصحابه: جالدوهم على الماء ، فليصيرن الماء لأصبر الفريقين ، وتنازل هرمز وخالد وانهزم أهل فارس وأفلت قباز والنوشجان .

وأول ملوك فارس قاتله المسلمون شيري بن كسرى ، وبعث خالد بالنفل إلى أبي بكر رضي الله عنه ومعه فيل ، فكان يطاف به في المدينة ، وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم ، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ، وكان هرمز قد تم شرفه فنفل أبو بكر رضي الله عنه خالدا قلنسوته ، وكانت مفصصة بالجوهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية