الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر



184 - سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن ثعلبة ، أبو ثابت الخزرجي :

كان يكتب في الجاهلية ، وكانت الكتابة في العرب قليلا ، وكان يحسن العوم والرمي ، وكان من اجتمع له ذلك يسمى الكامل ، وكان سعد بن عبادة وعدة من آباء له قبله في الجاهلية ينادى على أطمهم: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دليم بن حارثة ، وكان ينادى على أطم أبيه أيضا .

[أخبرنا عبد الله بن علي المقري بإسناده عن محمد] بن سيرين ، قال: كان [ ص: 199 ] أهل الصفة إذا أمسوا ينطلق الرجل بالرجل ، والرجل بالرجلين ، والرجل بالخمسة ، فأما سعد بن عبادة فكان ينطلق بثمانين كل ليلة .

[أخبرنا ابن الحصين ، قال: أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد غيلان ، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، حدثنا مسدد ، حدثنا حماد ، عن هشام] ، عن ابن سيرين:

أن سعد بن عبادة كان يبسط ثوبه ويقول: اللهم وسع علي ، فإنه لا يسعني إلا الكثير .

[قال الحربي : وحدثنا أبو بكر ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه]: أن سعد بن عبادة كان يدعو: اللهم هب لي حمدا ومجدا ، لا مجد إلا بفعال ، ولا فعال إلا بمال ، اللهم لا يصلحني القليل ، ولا أصلح عليه .

[قال الحربي : وحدثنا أبو بكر ، قال: حدثنا عيسى ، عن الأوزاعي ، عن يحيى ، يعني ابن أبي كثير ] قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من سعد كل يوم جفنة تدور معه حيث دار ، وكان يقول: اللهم ارزقني مالا فلا يصلح الفعال إلا بمال .

قال علماء السير: أسلم سعد وشهد العقبة مع السبعين ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وتهيأ للخروج إلى بدر فنهش فأقام ، وشهد أحدا والمشاهد بعدها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اجتمعت الأنصار فأمروه ، فلما بويع لأبي بكر لم يبايعه سعد ، ولا بايع عمر ، وخرج إلى الشام ، ومات بحوران .

وكان سبب موته أنه جلس يبول في نفق ، فاقتتل من ساعته ، ووجدوه قد اخضر جلده ، وسمع غلمان بالمدينة قائلا يقول من بئر فقال: [ ص: 200 ]


نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ورميناه بسهمين فلم تخط فؤاده

فذعر الغلمان فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعد بحوران

185 - عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الساعدي :

كان يهجو أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويحرض المشركين على المسلمين في شعره ، ويهاجي حسان بن ثابت وغيره من شعراء المسلمين ، ويسير مع قريش حيث سارت لحرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة عام الفتح هرب حتى انتهى إلى نجران ، فدخل حصنها ، وقال لأهلها: أما قريش فقد قتلت ودخل محمد مكة ، ونحن نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم ، فجعلوا يصلحون ما رث من حصنهم ، ويجمعون ماشيته ، ثم انحدر ابن الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


يا رسول المليك إن لساني     راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغي     ومن مال ميله مثبور
يشهد السمع والفؤاد بما قلت     ونفسي الشهيد وهي الخبير
إن ما جئتنا به حق صدق     ساطع نوره مضيء منير
جئتنا باليقين والصدق والبر     وفي الصدق والسرور السرور
أذهب الله ظلمة الجهل عنا     وأتانا الرخاء والميسور

وقال أيضا يعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:


منع الرقاد بلابل وهموم     والليل معتلج الرواق بهيم
مما أتاني أن أحمد لامني     فيه فبت كأنني محموم
[ ص: 201 ] يا خير من حملت على أوصالها     عيرانة سرح اليدين غشوم
إني لمعتذر إليك من الذي     أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأسوأ خطة     سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الردى ويقودني     أمر الغواة وأمرهم مشئوم
مضت العداوة وانقضت أسبابها     وأتت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما     وارحم فإنك راحم مرحوم
وعليك من سمة المليك علامة     فوز أعز وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه     شرفا ، وبرهان الإله عظيم

186 - المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب ، أبو سفيان :

كان أخا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة ، أرضعته حليمة أياما ، وكان يألف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويشبه به ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاداه وهجاه وهجا أصحابه . وكان شاعرا ، فمكث عشرين سنة عدوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يتخلف عن موضع تسير فيه قريش لقتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما تحرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للخروج إلى غزاة الفتح ألقى الله في قلبه الإسلام ، فجاء إلى زوجته وولده فقال: تهيؤوا للخروج فقد أظل قدوم محمد ، فقالوا له:

آن لك أن تنصر العرب والعجم ، قد تبعت محمدا وأنت موضع في عداوته ، وكنت أولى الناس بنصرته ، فخرج يريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نذر دمه ، فلقي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فتحول إلى الجانب الآخر فأعرض عنه ، فقال: أنا مقتول لا محالة ، فأسلم وخرج معه حتى شهد فتح مكة وحنينا .

قال: فلما لقينا العدو بحنين اقتحمت عن فرسي وبيدي السيف صلتا ، والله يعلم أني أريد الموت دونه ، وهو ينظر إلي ، فقال العباس: يا رسول الله ، هو أخوك وابن عمك ، أبو سفيان بن الحارث فارض عنه ، قال: "قد فعلت" ، فغفر الله له كل عداوة عادانيها ، ثم التفت إلي فقال: أخي ، لعمري ، فقبلت رجله في الركاب ، وقلت: لا تثريب ، قال: لا تثريب . [ ص: 202 ]

حج أبو سفيان في هذه السنة ، فحلقه الحلاق بمنى وفي رأسه ثؤلول فقطعه ، فكان سبب موته .

[أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر ، قال: أنبأنا أبو إسحاق البرمكي ، قال: أخبرنا ابن حيويه ، قال: أخبرنا ابن معروف ، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم ، قال: حدثنا محمد بن سعد ، قال: أخبرنا الفضيل بن دكين ، قال: حدثنا سفيان] ، عن أبي إسحاق ، قال: لما حضر أبا سفيان بن الحارث الوفاة قال لأهله: لا تبكوا علي؛ فإني لم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت .

قال علماء السير: مات أبو سفيان بالمدينة في هذه السنة . وقيل: بل مات في سنة عشرين ، وحفر قبر نفسه قبل موته بثلاثة أيام ، وصلى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . [ ص: 203 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية