الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفي هذه السنة حمى عمر رضي الله عنه الربذة لخيل المسلمين ، وقيل: في سنة ست عشرة .

وفيها اتخذ عمر دار الدقيق ، فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزيت ، وما يحتاج إليه المنقطع والضعيف الذين ينزلون بعمر ، ووضع عمر في طريق السبيل ما بين مكة والمدينة ما يصلح لمن ينقطع به ويحمل من ماء إلى ماء .

ومن الحوادث في هذه السنة أن عمر رضي الله عنه كتب التاريخ

وذلك في سنة خمس من ولايته ، وسنذكر سبب ذلك .

قال الشعبي : لما هبط آدم من الجنة ، وانتظر ولده أرخ بنو آدم من هبوط آدم ، [ ص: 227 ] فكان التأريخ حتى بعث الله نوحا ، فأرخوا من مبعث نوح حتى كان الغرق ، وكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم ، فلما كثر ولد إسماعيل افترقوا ، فأرخ بنو إسحاق من نار إبراهيم إلى مبعث يوسف ، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى ، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان ، ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى ، ومن مبعث عيسى إلى أن بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم أجمعين .

وأرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم إلى بناء البيت ، ومن بناء البيت حتى تفرقت معد ، وكانت للعرب أيام وأعلام يعدونها ، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل ، وكان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة .

وإنما أرخ عمر بعد سبع عشرة من مهاجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ . قال: فجمع عمر الناس للمشورة ، فقال بعضهم: أرخ لمبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل .

وقال ميمون بن مهران : رفع إلى عمر صك محله في شعبان ، فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ضعوا للناس شيئا يعرفونه ، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم ، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين ، فهذا يطول . وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس ، فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله ، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ، فوجدوا عشر سنين ، فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

وقال ابن سيرين : قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا ، فقال عمر: ما أرخوا؟ قال: شيء تفعله الأعاجم ، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا ، قال عمر: حسن فأرخوا ، فقال: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه ، وقالوا: من وفاته ، ثم أجمعوا على الهجرة ، ثم قال: فبأي الشهور نبدأ ، فقالوا: من رمضان ، ثم قالوا: المحرم؛ فإنه منصرف الناس من حجهم ، وهو شهر حرام ، فأجمعوا على المحرم . [ ص: 228 ]

وقال سعيد بن المسيب : جمع عمر الناس فسألهم فقال: من أي يوم نكتب؟

فقال علي رضي الله عنه: من يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وترك أرض الشرك . ففعله عمر رضي الله عنه .

وقال عثمان رضي الله عنه: أرخوا المحرم أول السنة .

قال مؤلف الكتاب: فقد قدموا التأريخ شهرين وبعض الآخر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول .

وقد قيل: إنما كتب عمر التاريخ في سنة ست عشرة .

وقال قدامة بن جعفر الكاتب : تاريخ كل شيء آخره ، وهو في الوقت غايته والموضع الذي انتهى إليه ، يقال: فلان تاريخ قومه؛ أي: إليه انتهى شرفهم . ويقال: ورخت الكتاب توريخا ، وأرخته تأريخا ، اللغة الأولى لتميم ، والأخرى لقيس ، ولكل مملكة وأهل ملة تأريخ ، وقد كان الروم أرخوا على حسب ما وقع من الأحداث إلى أن استقر تأريخهم على وفاة ذي القرنين ، وكانت الفرس تؤرخ بأعدل ملك لها إلى أن استقر تأريخها على هلاك يزدجرد الذي كان آخر ملوكهم ، وكانت العرب تؤرخ بتفرق ولد إسماعيل وخروجهم عن مكة ، ثم أرخوا بعام الغدرة ، وقال: إن ملكا من ملوك حمير وجه إلى الكعبة بكسوة وطيب ، فاعترض قوم من بني يربوع بن حنظلة الرسل فقتلوهم ، فانتهبوا ذلك ، وكانوا لا يفعلون ذلك في الأشهر الحرم ، فسمي عام الغدرة . ثم أرخوا بعام الفيل ، وكان في اليوم الثاني عشر من شباط سنة ثمانمائة واثنين وثمانين لذي القرنين ، ثم أرخ بسني الهجرة ، ابتدأ بذلك عمر بن الخطاب .

والتواريخ العربية إنما هي على الليالي ، وسائر تواريخ الأمم على الأيام؛ لأن سنيهم تجري على أمر الشمس ، وهي نهارية ، وسنو العرب يعمل فيها على القمر ، وابتداء رؤيتنا له الليل ، فيقال في أول ليلة مستهل ، ولا يقال ذلك في النهار ، ويقال في آخر الشهر يوم كذا: انسلاخ شهر كذا؛ لأن الشهر يبتدئ بابتداء الليل وينقضي بانقضاء [ ص: 229 ] النهار ، وما قبل الخامس عشر يعرف بالليالي المواضي ، وإذا كان بعده عرف بالليالي البواقي .

التالي السابق


الخدمات العلمية