الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة ست عشرة

فمن الحوادث فيها فتح مدينة بهرسير

أخبرنا القزاز ، قال: أخبرنا الخطيب ، قال: والمدائن على جانبي دجلة شرقا وغربا ، ودجلة تشق بينهما ، وتسمى المدينة الشرقية العتيقة ، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدرى من بناه ، ويتصل بها المدينة التي كانت الملوك تنزلها ، وفيها الإيوان وتعرف بأسبانير . وأما المدينة الغربية فتسمى بهرسير ، وكان الإسكندر قد بنى بالمغرب الإسكندرية ، وبخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد ، وبخراسان السفلى مرو ، وهراة ، وجال في الأرض ، فلم يختر منزلا سوى المدائن فنزلها . وبنى بها مدينة عظيمة ، وجعل عليها سورا أثره باق إلى الآن ، وهي المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي ، وأقام الإسكندر بها ومات ، فحمل منها إلى الإسكندرية لمكان أمه . وكل الملوك اختاروا المدائن ، وإنما سميت المدائن لكثرة من بنى بها من الملوك الأكاسرة . والذي بنى الإيوان هو شابور بن هرمز المعروف بذي الأكتاف ، وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة .

قال علماء السير: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بعد القادسية بالمسير إلى المدائن ، وعهد إليه أن يخلف النساء والعيال بالعتيق ، ويجعل معهم من يحرسهم من الجند ويسهم لأولئك الجند من المغنم ما داموا يحفظون عيال [ ص: 204 ] المسلمين ، فأقام سعد بعد الفتح شهرين بالقادسية ، ثم ارتحل بعد الفراغ من أمرها لأيام بقين من شوال ، ولقي جماعة من أصحابه جموعا من فارس يوم برس فهزموهم إلى بابل ، فلحقوهم فقتلوا منهم .

وأقام سعد ببابل أياما ثم جاء إلى كوثى ، وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم عليه السلام ، وقدم سعد زهرة بن الحوية إلى بهرسير ، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزية ، فبعثه إلى سعد ، ولحق سعد بزهرة فنزلوا بهرسير ، وبث سعد الخيل فأغارت ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات ، فأصابوا مائة ألف فلاح ، فكتب بذلك إلى عمر ، فكتب عمر: إذا كان الفلاحون مقيمين لم يعينوا عليكم فهو أمانهم ، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم به .

فخلى سبيلهم ، وتحصنت العجم بيهرسير ، ونصب عليهم سعد عشرين منجنيقا .

وحصروهم شهرين حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنيات المشرفة على دجلة لقتال المسلمين فلا يقومون لهم ، [ثم تجردوا يوما للحرب ، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم] ، فنزلوا ، ووقع سهم في زهير بن الحياة ، فقال زهرة: أخرجوه ، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دام في لعلي أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة ، فمضى نحو العدو ، فضرب بسيفه شهربراز فقتله ، ثم أحيط به فقتل .

كل هذا وملكهم متحصن في مدينة ، فبعث إلى المسلمين رسولا يقول لهم: إن الملك يقول لكم: هل لكم في المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا ، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم . فكلمه الأسود بن قطبة بكلمات فولى فقيل له: ما قلت له؟ قال: والله ما أدري ، وإنما هي كلمات جرت على لساني .

فخرج من القوم رجل يستأمن ، فأمنوه ، فقال: والله ما بقي في المدينة أحد فما يمنعكم ، فتسورها الرجال وقالوا له: لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينك صلح حتى نأكل من عسل أفريذين بأترج كوثى . [ ص: 205 ]

فلما دخل سعد والمسلمون بهرسير -وهي المدينة الدنيا- طلبوا السفن ليعبروا إلى المدينة القصوى ، وهي المدائن ، فلم يقدروا على شيء ووجدوا القوم قد ضموا السفن ولاح للمسلمين الأبيض ، فكبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى ، هذا ما وعد الله ورسوله .

فأقاموا ببهرسير أياما من صفر ، ثم جاء أعلاج ، فدلوهم على مخاضة ، فتردد سعد في ذلك ، ثم فاجأهم المد ، فرأى رؤيا ، أن خيول المسلمين قد اقتحمت ، فعبرت ، فقال للناس: إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم ، فقالوا: عزم الله لنا ولك على الرشد ، فافعل .

وأتى بعض العلوج فقال لسعد: إن أقمت ثلاثا ذهب يزدجرد بكل شيء من المدائن ، فهيجه على العبور .

فقال سعد : من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس ، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات ، فسار فيهم عاصم حتى وقف على شاطئ دجلة ، ثم اقتحموا . فجاءت الأعاجم فقال عاصم: الرماح ، فطعنوا القوم فلحقوهم فقتلوا عامتهم . فحينئذ أذن سعد للناس في الاقتحام ، فاقتحموا دجلة ، وإنها لترمي بالزبد ، وإن الناس ليتحدثون في عومهم كما يتحدثون على وجه الأرض ، فكان الفرس يقوم براكبه ، فربما لم يبلغ الماء الحزام ، وربما أعيا الفرس فتظهر له تلعة فيستريح عليها .

وكان سعد يقول في عومه: حسبنا الله ونعم الوكيل ، وسلمان يحادثه في عومه حتى خرجوا فلم يفقدوا شيئا ، ولم يغرق إلا رجل وقع من فرسه في الماء ، فعاد إليه رجل ، فأخذ بيده فعبر . ووقع من رجل قدح ، فأخذه آخر ، فجاء به إلى العسكر فعرفه صاحبه .

فلما رأى العدو ذلك هربوا لا يلوون على شيء ، وجعلوا يقولون: إنما تقاتلون [ ص: 206 ] الجن لا الإنس ، وتركوا جمهور أموالهم ، وكان في بيوت الأموال ثلاثة ألف ألف ، فأخذوا نصف ذلك وهربوا وتركوا [الباقي ، وخرجوا من المتاع بما يقدرون عليه ، وتركوا] من الثياب والمتاع والأواني ، وما أعدوا للحصار من البقر والغنم والطعام ما لا يحصى قيمته . وكان يزدجرد قد أخرج عياله إلى حلوان ، فلحق بعياله ، فدخل المسلمون المدائن وليس فيها أحد إلا أنه قد بقي في القصر الأبيض قوم قد تحصنوا به ، فعرض عليهم المسلمون الإسلام أو الجزية أو القتل ، فاختاروا الجزية .

ونزل سعد القصر الأبيض ، واتخذ الإيوان مصلى ، وجعل يقرأ: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين وأتم الصلاة ، ثم دخلها لأنه كان على نية الإقامة ، وصلى الجمعة ، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق جمعة المدائن .

[أخبرنا أبو منصور القزاز ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ ، أخبرنا الحسين بن عمر بن برهان ، وعلي بن محمد المعدل ، قالا: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، أخبرنا أبو عوف البزوري ، حدثنا عمرو بن حماد [يعني ابن طلحة القناد ] ، حدثنا أسباط ، عن سماك ] ، عن جابر بن سمرة ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه قال: "ليفتتحن رهط من المسلمين كنز كسرى الذي في الأبيض" . فكنت أنا وأبي منهم ، فأصبنا من ذلك ألفي درهم . [أخبرنا أبو منصور القزاز ، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت ، قال: أنبأنا ابن رزق ، حدثنا إبراهيم بن محمد المزكي ، أخبرنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا سعدان بن نصر ، حدثنا شبابة بن سوار ، حدثنا أيوب بن طهمان ]: [ ص: 207 ]

أنه رأى علي] بن أبي طالب رضي الله عنه حين دخل الإيوان بالمدائن أمر بالتماثيل التي في القبلة فقطع رؤوسها ثم صلى فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية