الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الخبر عن فتح مصر والإسكندرية

قال ابن إسحاق : لما فرغ عمر من الشام كلها كتب إلى عمرو بن العاص أن يسير إلى مصر ، فخرج حتى افتتح باب البون في سنة عشرين ، ثم افتتح القرى ، فأرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص : "قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم ، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي ما أصبتم من سبايا أرضي فعلت" .

فبعث إليه عمرو بن العاص: "إن ورائي أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه ، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عني حتى أكتب إليه" . [ ص: 292 ]

فقال: نعم . فكتب إلى عمر ، فكتب إليه عمر: "اعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من في أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه ، فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ، ومن اختار دين قومه أدى الجزية كقومه ، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب ، فبلغ مكة والمدينة واليمن ، فإنه لا يقدر على ردهم" .

فقال صاحب الإسكندرية : قد فعلت ، ثم فتحت لنا الإسكندرية ، فدخلناها .

وقال أبو عمر محمد بن يوسف التجيبي : قال سعيد بن عفير عن أشياخه: لما جاز المسلمون الحصن -يعني حصن مصر- أجمع عمرو على المسير إلى الإسكندرية ، فسار إليها في ربيع الأول سنة عشرين ، وأمر بفسطاطه أن يقوض ، فإذا بحمامة قد باضت في أعلاه فقال: لقد تحرمت بجوارنا ، أقروها الفسطاط حتى تطير فراخها . فأقروا الفسطاط ، ووكل به أن لا تهاج حتى تشتد فراخها ، فبذلك سميت الفسطاط فسطاطا .

[أخبرنا محمد بن الحسين ، وإسماعيل بن أحمد قالا: أخبرنا ابن النقور ، أخبرنا المخلص أحمد بن عبد الله ، حدثنا السري بن يحيى ، أخبرنا شعيب ، حدثنا سيف ، حدثنا أبو عثمان] ، عن خالد وعبادة قالا: خرج عمرو إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة ، حتى انتهى إلى باب مصر ، واتبعه الزبير ، فاجتمعا ، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق مصر ، ومعه الأسقف الذي بعثه المقوقس لمنع بلادهم ، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه ، فأرسل إليهم: لا تعجلوا لنقدر إليكم وتروا رأيكم بعد ، فكفوا أصحابكم .

وأرسل إليهم عمرو ، فإني بارز فليبرز إلي أبو مريم وأبو مرياهم . فأجابوه إلى ذلك ، وأمن بعضهم بعضا ، فقال لهما عمرو: أنتما راهبا هذه المدينة فاسمعا: إن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالحق ، وأمره به ، فأمرنا به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأدى إلينا كل الذي أمر به ، [ ص: 293 ] ثم مضى وقد قضى الذي عليه ، وتركنا على الواضحة ، وكان مما أمرنا به الاعتذار إلى الناس ، فنحن ندعوكم إلى الإسلام ، فمن أجابنا إليه قبلناه ، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية ، وقد أعلمنا أننا مفتتحوكم ، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم ، فإن لكم -إن أجبتمونا إلى ذلك- ذمة إلى ذمة ، ومما عهد إلينا أميرنا: "استوصوا بالقبطيين خيرا"؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصاني بالقبطيين خيرا؛ لأن لهم رحما وذمة .

فقالا: قرابة بعيدة ، فلا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء ، معروفة شريفة ، كانت بنت ملكنا ، فصارت إلى إبراهيم ، مرحبا بك وأهلا ، آمنا حتى نرجع إليك .

فقال عمرو: إن مثلي لا يخدع ، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظرا أو لينظر قومكما ، وإلا ناجزتكم .

فقالا: زدنا . فزادهما يوما ، قالا: زدنا . فزادهما يوما ، فرجعا إلى المقوقس [فهم] ، فأبى أرطبون أن يجيبهما ، وأمر بمناجزتهم ، فركب المسلمون أكتافهم ، وقال أهل الفسطاط -يعني مصر- لملكهم: ما تريد إلى قوم قد قتلوا كسرى وقيصر ، وغلبوهم على بلادهم ، صالح القوم ، وكان صلحهم: هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر الأمان على أنفسهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وصليبهم ، وعليهم أن يعطوا الجزية ، ومن دخل في صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم ، ومن أبى واختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ، فدخل في ذلك أهل مصر ، وقبلوا الصلح .

فمصر عمرو الفسطاط وتركه المسلمون ، وأمره عمر رضي الله عنه عليها ، فأقام بها ، ووضع مسالح مصر على السواحل وغزة ، وكان داعية ذلك أن قيصر غزا مصر والشام في البحر ، ونهد لأهل حمص بنفسه . [ ص: 294 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية