الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر أخبار الأسود العنسي ومسيلمة وسجاح وطليحة

أما الأسود فاسمه عبهلة بن كعب ، يقال له: "ذو الخمار" ، لقب بذلك لأنه كان يقول: يأتيني ذو خمار . وكان الأسود [كاهنا] مشعبذا ويريهم الأعاجيب ، ويسبي بمنطقه قلب من يسمعه ، وكان أول خروجه بعد حجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكاتبته مذحج وواعدته بحران ، فوثبوا بها وأخرجوا عمرو بن حزم ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأنزلوه منزلهما ، ووثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك وهو على مراد ، فأجلاه ونزل [ ص: 19 ] منزله ، فلم يلبث عبهلة بحران أن سار إلى صنعاء فأخذها ، وكتب فروة بن مسيك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ، ولحق بفروة من بقي على إسلامه من مذحج ولم يكاتب الأسود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يرسل إليه لأنه لم يكن معه أحد يشاغبه ، وصفا له ملك اليمن وقوي أمره .

واعترض على الأسود وكاثره عامر بن شهر الهمداني في ناحيته وفيروز وداذويه في ناحيتهما ، ثم تتابع الذين كتب إليهم على ما أمروا به .

ثم خرج الأسود في سبعمائة فارس إلى شعوب فخرج إليه شهر بن باذام وذلك لعشرين ليلة من خروجه ، فقتل شهرا ، وهزم الأبناء ، وغلب على صنعاء لخمس وعشرين ليلة من خروجه . وخرج معاذ بن جبل هاربا حتى مر بأبي موسى وهو بمأرب ، فاقتحما حضرموت ، فنزل معاذ السكون ، ونزل أبو موسى السكاسك ، ورجع عمرو وخالد إلى المدينة ، وغلب الأسود وطابقت عليه اليمن وجعل أمره يستطير استطارة الحريق . ودانت له سواحل البحر ، وعامله المسلمون بالتقية .

وكان خليفته في مذحج عمرو بن معديكرب ، وكان قد أسند أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث ، وأمر الأنباء إلى فيروز وداذويه .

ثم استخف بهم وتزوج امرأة شهر ، وهي ابنة عم فيروز ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفر من الأبناء رسولا وكتب إليهم أن يجاولوا الأسود إما غيلة وإما مصادمة ، وأمرهم أن يستنجدوا رجالا سماهم لهم ممن خرجوا حولهم من حمير وهمدان ، وأرسل إلى أولئك النفر أن ينجدوهم ، فدعوا قيس بن عبد يغوث حين رأوا الأسود قد تغير عليه ، فحدثوه الحديث وأبلغوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأجاب ودخلوا على زوجته ، فقالوا: هذا قتل أباك ، فما عندك؟ قالت: هو أبغض خلق الله إلي وهو متحرز والحرس يحيطون بقصره [ ص: 20 ] إلا هذا البيت ، فانقبوا عليه فنقبوا ودخل فيروز فخالطه فأخذ برأسه فقتله ، فخار كأشد خوار ثور ، فابتدر الحرس الباب ، فقالوا: ما هذا؟ قالت المرأة: النبي يوحى إليه فإليكم ثم خمد .

وقد كان يجيء إليه شيطان فيوسوس له فيغط ويعمل بما قال له ، فلما طلع الفجر نادوا بشعارهم الذي بينهم ، ثم بالأذان ، وقالوا فيه: نشهد أن محمدا رسول الله وأن عبهلة كذاب ، وشنوها غارة . وتراجع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أعمالهم ، وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخبر فسبق خبر السماء إليه ، فخرج قبل موته بيوم أو بليلة ، فأخبر الناس بذلك ، ثم ورد الكتاب ، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد مات ، إلى أبي بكر ، وكان من أول خروج الأسود إلى أن قتل أربعة أشهر .

[أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الحاجي ، وإسماعيل بن أحمد السمرقندي ، قالا: أخبرنا أبو الحسين بن النقور ، أخبرنا المخلص ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن عبد الله بن سيف بن سعد ، أخبرنا السري بن يحيى ، حدثنا شعيب بن إبراهيم التيمي ، حدثنا سيف بن عمر ، عن أبي القاسم الشنوي ، عن العلاء بن زياد] ، عن ابن عمر ، قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي فخرج ليبشرنا ، فقال: "قتل العنسي الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين" ، قيل: ومن [هو]؟ قال: "فيروز ، فاز فيروز" .

ذكر أخبار مسيلمة

قد ذكرنا أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني حنيفة ، فلما عاد الوفد ارتد ، [ ص: 21 ] وكان فيه دهاء فكذب لهم وادعى النبوة ، وتسمى برحمان اليمامة ، لأنه كان يقول: الذي يأتيني اسمه رحمان ، وخاف أن لا يتم له مراده لأن قومه شاغبوه ، فقال: هو كما يقولون إلا أنني قد أشركت معه ، فشهد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نبي ، وادعى أنه قد أشرك معه في النبوة ، وجعل يسجع لهم ويضاهي القرآن ، فمن قوله: سبح اسم ربك الأعلى الذي يستر على الحبلى فأخرج منها نسمة تسعى من بين أضلاع وحشى . يا ضفدعة بنت الضفدعين نقي ما تنقين وسبحي فحسن ما تسبحين للطين تغني سنين والماء تلبسين ، ثم لا تكدرين ولا تفسدين فسبحي لنا فيما تسبحين . وكانوا قد سمعوا منه .

ومن قوله لعنه الله: والليل الأطحم ، والذئب الأدلم والجذع الأزلم ما انتهكت أسيد من محرم . وكان يقصد بذلك نصرة أسيد على خصوم لهم .

وقال: والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس .

وقال: والشاة وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، ما لكم لا تمجعون .

وكان يقول: والمبذرات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم على أهل الوبر ، وما سبقكم أهل المدر ، ريفكم فامنعوه .

وأتته امرأة ، فقالت: ادع الله لنخلنا ولمائنا فإن محمدا دعا لقوم فجاشت آبارهم ، فقال: وكيف فعل محمد؟ قالت: دعا بسجل ، فدعا لهم فيه ثم تمضمض ومجه فيه ، فأفرغوه في تلك الآبار ، ففعل هو كذلك فغارت تلك المياه .

وقال له رجل: برك على ولدي ، فإن محمدا يبرك على أولاد أصحابه ، فلم يؤت [ ص: 22 ] بصبي مسح على رأسه أو حنكه إلا لثغ وقرع .

وتوضأ في حائط فصب وضوءه فيه فلم ينبت .

وكانوا إذا سمعوا سجعه ، قالوا: نشهد أنك نبي ، ثم وضع عنهم الصلاة وأحل لهم الخمر والزنا ونحو ذلك ، فأصفقت معه بنو حنيفة إلا القليل وغلب على حجر اليمامة وأخرج ثمامة بن أثال ، فكتب ثمامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره - وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على اليمامة وانحاز ثمامة بمن معه من المسلمين ، وكتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا قوم لا يعدلون ويعتدون .

وبعث الكتاب مع رجلين: عبد الله بن النواحة ، وحجير بن عمير ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتشهدان أني رسول الله؟ " قالا: نعم ، قال: "أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ " قالا: نعم قد أشرك معك ، فقال: "لولا أن الرسول لا يقتل لضربت أعناقكما" . ثم كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء ، والعاقبة للمتقين ، وقد أهلكت أهل حجر ، أقادك الله ومن صوب معك" .

التالي السابق


الخدمات العلمية