الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[قال المصنف]: وقد روي لنا فتح نهاوند من طريق آخر:

[أنبأنا محمد بن ناصر ، قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار الصيرفي ، قال:

أخبرنا أبو الفتح عبد الكريم بن محمد بن أحمد المحاملي ، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان ، قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، قال: حدثنا شعيب بن أيوب ، قال: حدثنا أبو يحيى الحماني ، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي ] ، عن الحسن ، قال: كانت عظماء الأعاجم من أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تكاتبوا وتعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ويغزوهم ، فبلغ ذلك أهل الكوفة ففزعوا فيه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فلما قدموا عليه نادى في الناس: الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، ثم صعد المنبر ، فقال: أيها الناس ، إن الشيطان قد [ ص: 273 ] جمع جموعا ، فأقبل بها ليطفئوا نور الله ، ألا إن أهل قومس وأهل الري وأهل همذان وأهل نهاوند قد تعاهدوا على أن يخرجوا العرب من بلادهم ، ويغزوكم في بلادكم فأشيروا علي . فقام طلحة فقال: أنت ولي هذا الأمر ، وقد أحكمت التجارب ، فادعنا نجب ومرنا نطع ، فأنت مبارك الأمر ميمون النقيبة ، ثم جلس . فقال عمر: تكلموا ، فقام عثمان فقال: أرى أن تكتب إلى أهل الشام فيسيرون من شأمهم ، وتكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من يمنهم ، وتسير أنت بنفسك من هذين الحرمين إلى هذين المصرين ، من أهل الكوفة والبصرة ، فتلقى جموع المشركين في جموع المسلمين .

ثم قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: إنك إن أشخصت أهل الشام سارت الروم إلى ذراريهم ، وإنك إن أشخصت أهل اليمن سارت الحبشة إلى ذراريهم ، وإنك متى شخصت من هذين الحرمين انتقضت عليك الأرض من أقطارها حتى تكون ما تخلف خلفك من العورات أهم إليك مما بين يديك ، ولكن أرى أن تكتب إلى أهل البصرة فيفترقون ، ففرقة تقيم في أهاليها ، وفرقة يسيرون إلى إخوانهم بالكوفة ، وأما ما ذكرت من كثرة القوم فإنا لم نكن نقاتلهم فيما خلا بالكثرة ولكنا نقاتلهم بالنصر . فقال عمر رضي الله عنه: صدقت يا أبا الحسن ، هذا رأي ولئن شخصت [من البلدة] لتنقضن علي الأرض من أقطارها ، وليمدنهم من لم يكن يمدهم ، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر ، قالوا: أنت أفضلنا رأيا ، قال: أشيروا علي به ، واجعلوه عراقيا ، قالوا: أنت أعلم بأهل العراق ، قال: لأولين ذلك الثغر رجلا يكون قتيلا في أول سنة ، قالوا: ومن هو؟ قال: النعمان بن مقرن ، ثم كتب إلى أهل البصرة بما أشار به علي رضي الله عنه ، ثم كتب إلى أهل الكوفة : إني استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني ، فإن قتل فعليكم حذيفة بن اليمان ، فإن قتل عليكم جرير بن عبد الله [البجلي] ، [ ص: 274 ] فإن قتل فعليكم المغيرة بن شعبة ، فإن قتل فعليكم الأشعث بن قيس .

وكتب إلى النعمان : أما بعد ، فإن معك في جندك عمرو بن معديكرب المذحجي ، وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأحضرهما الناس ، وشاورهما في الحرب ، ولا تولهما عملا ، ثم دعا السائب بن الأقرع ، فدفع إليه الكتاب وقال: انطلق فاقرأ كتابي على الناس ، وانظر ذلك الجيش ، فإن الله أعزهم ونصرهم كنت أنت الذي تلي مغانمهم ومقاسمهم ، ولا ترفعن إلي باطلا ، ولا تنقص أحدا شيئا هو له ، وإن ذلك الجيش ذهب فاذهب في الأرض ، ولا أراك بواحدة من عيني ما بقيت أبدا ، فسار السائب حتى قدم الكوفة ، وبعث إلى أهل البصرة بكتابهم ، ففعلوا ما أراد ، وسار الناس وأقبلت الأعاجم بمجموعها حتى نزلوا نهاوند ، وسار النعمان بن مقرن بالناس حتى إذا كان ببعض الطريق بعث بكير بن شداخ الليثي وطليحة بن خويلد الأسدي ، فأما بكير فرجع ، فقيل له: ما وراءك؟ قال: أرض الأعاجم وأنا بها جاهل ، فخشيت أن يؤخذ علي بمضايق الجبال ، ونفذ طليحة حتى علم الخبر ، وسار الناس حتى نزلوا نهاوند ، فأقاموا ثلاثة أيام ولياليهن ، فأجمعوا أنفسهم ودوابهم ، ثم غدوا يوم الأربعاء في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتلى في الفريقين والجراحات حتى حجز بينهم الليل ، فرجع الفريقان إلى معسكرهم ، فبات المسلمون يعصبون بالخرق ، وتوقد لهم النيران ، وبات المشركون في المعازف والخمور حتى أصبحوا ، [ثم غدوا يوم الخميس على البراذين وأقبية الديباج والسيوف المحلاة ، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر القتلى في الفريقين والجراحات ، وحجز بينهم الليل فرجع الفريقان إلى معسكرهم ، فبات المسلمون يعصبون وتوقد لهم النيران ، وبات المشركون في المعازف والخمور] .

ثم غدوا يوم الجمعة فركب النعمان بن مقرن -وكان رجلا قصيرا آدم- فرسا أبيض ، وعليه قباء أبيض وعمامة بيضاء ، ورفعت الرايات ، ثم قال: أيها الناس ، إنكم باب بين العرب والعجم ، فإن كسر ذلك الباب دخل على المسلمين من ذلك أمر عظيم ، فليشغل كل رجل منكم قرينه ، ألا إني أهز الراية هزة فليتعاهد الرجل حزامه وسلاحه ، ثم إني هاز الثانية فلينظر الرجل إلى مصوب رمحه وموضع سلاحه [ ص: 275 ] ووجه مقاتله ، ثم إني هاز الثلاثة فمكبر فكبروا ، وحامل فاحملوا ، ومستنصر الله برحمته فاستنصروا الله ، فقال رجل: قد فهمنا ما أمرت أيها الأمير ، ونحن واقفون عند رأيك ، ومنتهون إلى أمرك ، وأي النهار تريد ، أوله أم آخره؟ فقال: لا أريد أوله ولكن أريد آخره ، فإن فيه تهب الرياح ، وينزل النصر من السماء لمواقيت الصلاة ، فلما زالت الشمس هز الراية فتعاهد الناس حزم دوابهم وخيولهم ، ثم مكث حتى مالت الشمس عن كبد السماء هزها الثانية وصلى بالناس ركعتين خفيفتين ، ثم وثب الرجال على متون الخيل ، فوضع كل رجل رمحه بين أذني فرسه ، وشدت الرجال مناطقها وأقبيتها على ظهورها ، وحسروا عن شمائلهم ، وأخذوا السيوف بأيمانهم ، ثم كبر الثالثة وهز الراية ، ثم صوبها كأنها جناح طائر ، ثم حمل وحمل المسلمون ، فكان النعمان أول قتيل ، وأتى عليه أخوه وهو قتيل ، فطرح عليه ثوبه لئلا يعرف ، ورفع الراية فإذا هي تنضح بالدماء ، وهزم الله العدو ، واتبعهم المسلمون ، فأتى السائب بن الأقرع بالغنائم مثل الآكام ، ثم أتاه دهقان ، فقال له: أنت السائب بن الأقرع؟ قال: نعم ، قال: أنت صاحب غنائم العرب؟ قال: نعم ، قال: فهل لك أن تؤمنني على دمي وعلى دم ذوي قرابتي وأدلك على كنز النخيرجان؟ قال: ويحك إنك تسألني الأمان على دماء قوم لا أدري لعلهم يكونون أمة كثيرة ولا أدري ما كنزك ، قال: هو كنز النخيرجان ، إنه كان له امرأة ينتابها العالم ، وأن كسرى كان يختلف إليها يزورها ومعه وصائف عليهن المناطق المفضضة وأقبية الديباج ، وكان لكسرى تاج ياقوت ، وذلك التاج والحلي مدفون لم يطلع عليه غيري ، فانطلق حتى أدلك عليه ليكون لعمر لا حق فيه لأحد؛ لأنه دفن دفنوه ولم يجلبوا عليه في الحرب ، فأخذ السائب المعول ثم خرج ، فانطلق بهم حتى أدخلهم قلعة ، فإذا هم بصخرة ، فقال: اقلعوها فقلعوها فإذا تحتها سفطان ففتحهما ، فرأى فيهما السائب شيئا لم ير مثله ، وخواتيم من ذهب . قال السائب: فكتمته الناس ، وأسرعت به السير إلى عمر حتى قدمت به عليه ، فلما رآني ناداني من بعيد: ويحك ما وراءك ، فوالله ما بت هذه الليلة ، وما أتت ليلة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت أعظم علي منها . قال السائب: فقلت: أبشر بفتح الله ونصره ، التقينا بنهاوند ، وقص عليه القصة إلى قتل النعمان .

[فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون ، يرحم الله النعمان ، يرحم الله النعمان ، يرحم الله [ ص: 276 ] النعمان] قلت: يا أمير المؤمنين: ما قتل بعده رجل فعرف وجهه ، فقال: هؤلاء الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ، وما معرفة عمر ، وما معرفة عمر لكن الله يعرفهم ، الذي رزقهم الشهادة ، وساقهم إليها فهو خير لهم من معرفة عمر ، ثم وضع يده على صدره ، فبكى طويلا ثم أقبل إلي ، فقال: أعطيت أبشارهم أم دفنتموهم ، فقلت: لا بل دفناهم ، تم قام عمر فأخذت بثوبه فقلت . إن لي إليك حاجة ، قال: وما حاجتك؟ فجلس فأريته ذلك ، وأخبرته خبر الدهقان فدعا عليا ، وابن مسعود ، وعبد الله بن أرقم صاحب الخزانة ، فقال: ضعوا على هذه خواتيمكم ، ووضع خاتمه ثم قال لعبد الله بن أرقم: ارفع هذا عندك ، ثم انصرف السائب حتى قدم الكوفة ، فأتاه بريد عمر [يدعوه] مستعجلا ، فأتاه ، فلما رآه ناداه قبل أن يصل إليه: أخبرني خبر السفطين ، فقال: والله لئن رددت عليك حديثهما فزدت حرفا أو نقصت حرفا لأكذبتك ، قال: ويحك ، إنه لما فارقتني وأخذت مضجعي من الليل لمنامي أتاني ملائكة فأوقدوا سفطيك على جمرة ، ثم جعلوا يدفعونها في نحري ، وأنا أنكب وأعاهد الله لأردنهما على ما أفاء الله عليه ، وكاد ابن الخطاب يحترق بالنار ، فانطلق بهذين السفطين فضعهما في مسجد الكوفة ، فإن وجدت بهما عطاء المقاتلة والذرية فبعهما واقسمهما على ما أفاء الله عليه ، فإن لم تجد بهما إلا نصف عطاء المقاتلة والذرية فبعهما .

فوضعتهما في مسجد الكوفة ، فمر بنا عمرو بن حريث فاشتراهما بعطاء المقاتلة والذرية ، فباع أحد السفطين من أهل الحيرة ، ثم اشتراهما به ، وبقي الآخر ربحا ، وكان أول قريش عقد بالكوفة مالا .

[أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي ، قال: حدثنا أبو طاهر أحمد بن الحسين بن أحمد ، قال: أخبرنا أبو علي بن شاذان ، قال: أخبرنا دعلج بن أحمد ، قال: أخبرنا محمد بن علي بن زيد الصائغ ، قال: حدثنا سعد بن منصور ، قال: حدثنا شهر بن حوشب ، عن الحجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، قال: حدثني شقيق بن سلمة الأسدي ، عن الرسول الذي جرى بين عمر وسلمة بن قيس الأشجعي] ، قال: [ ص: 277 ]

ندب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس مع سلمة بن قيس الأشجعي بالحرة إلى بعض أهل فارس ، فقال: انطلقوا [بسم الله و] في سبيل الله تقاتلون من كفر بالله ، لا تغلوا ، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا [هرما] ، وإذا انتهيت إلى القوم فادعهم إلى الإسلام ، فإن قبلوا فاقبل منهم وأعلمهم أنه لا نصيب لهم في الفيء ، فإن أبوا فادعهم إلى الجزية ، فإن قبلوا فضع عليهم بقدر طاقتهم ، وضع فيهم جيشا يقاتل من وراءهم ، وخلهم وما وضعته عليهم ، فإن أبوا فقاتلهم ، وإن دعوكم إلى أن تعطوهم ذمة الله وذمة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تعطوهم ذمة الله ولا ذمة محمد ، ولكن أعطوهم ذمة أنفسكم ، ثم وفوا لهم ، فإن أبوا عليكم فقاتلوهم ، فإن الله ناصركم عليهم .

فلما قدمنا البلاد دعوناهم إلى كل ما أمرنا به ، فأبوا ، فلما مسهم الحصر نادوا:

أعطونا ذمة الله وذمة محمد ، فقلنا: لا ، ولكن نعطيكم ذمة أنفسنا ثم نفي لكم ، فأبوا فقاتلناهم فأصيب رجل من المسلمين ، ثم إن الله فتح علينا فملأ المسلمون أيديهم من متاع ورقيق ورفه ما شاءوا ، ثم إن سلمة بن قيس أمير القوم دخل ، فجعل يتخطى بيوت نارهم ، فإذا سفطين معلقين بأعلى البيت ، فقال: ما هذان السفطان ، فقالوا: شيء كانت تعظم بها الملوك بيوت نارهم ، قال: أهبطوهما إلي ، فإذا عليهما طوابع الملوك بعد الملوك ، قال: ما أحسبهم طبعوا إلا على أمر نفيس ، علي بالمسلمين ، فلما جاءوا أخبرهم خبر السفطين ، فقال: أردت أن أفضهما بمحضر منكم ، ففضهما فإذ هما مملوءان جوهرا لم ير مثله -أو قال: لم أر مثله- فأقبل بوجهه على المسلمين ، فقال: يا معشر المسلمين قد علمتم ما أبلاكم الله في وجهكم هذا ، فهل لكم أن تطيبوا بهذين السفطين أنفسا لأمير المؤمنين لحوائجه وأموره وما ينتابه ، فأجابوه بصوت رجل واحد: إنا نشهد الله أنا قد قبلنا وطابت أنفسنا لأمير المؤمنين ، فدعاني فقال: قد عهدت أمير المؤمنين يوم الحرة وما أوصانا به وما اتبعنا من وصيته ، وأمر السفطين وطيب أنفس المسلمين له بهما ، فقد علمت به ، فامض بهما إليه ، واصدقه الخبر ثم ارجع إلي بما يقول لك ، فقلت ما لي بد من صاحب ، فقال: خذ بيدك من أحببت ، فأخذت بيد رجل من القوم وانطلقنا [ ص: 278 ] بالسفطين حتى قدمنا بهما المدينة ، فأجلست صاحبي مع السفطين وانطلقت في طلب أمير المؤمنين عمر ، فإذا به يغدي الناس وهو يتوكأ على عكاز وهو يقول: يا برقي ضع ها هنا . فجلست في عرض القوم لا آكل شيئا ، فمر بي فقال: ألا تصيب من الطعام ، فقلت: لا حاجة لي إليه ، فرآني الناس وهو قائم يدور فيهم فقال: يا برقي خذ خوانك وقصاعك ، ثم أدبر فاتبعته فجعل يتخلل طرق المدينة حتى انتهى إلى دار قوراء عظيمة ، فدخلها فدخلت في أثره ، ثم انتهى إلى حجرة من الدار فدخلها فقمت مليا حتى ظننت أن أمير المؤمنين قد تمكن من مجلسه ، فقلت: السلام عليك ، فقال: وعليك السلام ، ادخل ، فدخلت فإذا هو جالس على وسادة [مرتفقا أخرى ، فلما رآني نبذ إلي التي كان مرتفقا ، فجلست عليها] فإذا هي تعرى ، وإذا حشوها ليف ، قال: يا جارية أطعمينا ، فجاءت بقصعة فيها قدر من خبز يابس ، فصب عليها زيتا ما فيه ملح ولا خل ، فقال: أما إنها لو كانت راضية لأطعمتنا أطيب من هذا ، فقال لي: ادن ، فدنوت ، قال: فذهبت أتناول منها قدره ، فلا والله لا أستطيع أن أجيزها ، فجعلت ألوكها مرة من ذا الجانب ، ومرة من ذا الجانب فلم أقدر على أن أسيغها ، وأكل هو أحسن الناس أكلا لم يتعلق له طعام بثوب أو شعر ، حتى رأيته يلطع جوانب القصعة ، ثم قال: يا جارية اسقنا ، فجاءت بسويق سلت ، فقال: أعطه ، فناولتنيه ، فجعلت إذا أنا حركته ثار له غبار ، فلما رآني قد بشعت ضحك ، فقال: ما لك ، أرنيه إن شئت ، فناولته ، فشرب حتى وضع على جبهته هكذا ، ثم قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا فأروانا وجعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قلت:

قد أكل أمير المؤمنين فشبع فروي ، حاجتي -جعلني الله فداك- قال: لله أبوك ، فمن أنت؟ قلت: رسول سلمة بن قيس ، قال: فبالله ، لكأنما خرجت من بطنه تخففا علي وحبا ، ثم قال: لتخبرني عن من جئت من هذه ، وجعل يقول وهو يزحف إلي: لله أبوك ، كيف تركت سلمة بن قيس؟ كيف المسلمون؟ ما صنعتم؟ كيف حالكم؟

قلت: ما تحب يا أمير المؤمنين ، وقصصت عليه الخبر على أنهم ناصبونا القتال ، فأصيب رجل من المسلمين ، فاسترجع وبلغ منه ما شاء الله ، وترحم عليه -أعني على الرجل- طويلا ، قلت: ثم إن الله فتح علينا يا أمير المؤمنين ، فتحا عظيما ، فملأ

[ ص: 279 ]

المسلمون أيديهم من متاع ورقيق ورفه ما شاءوا ، قال: ويحك ، كيف اللحم بها؛ فإنها شجرة العرب لا تصلح العرب إلا بشجرتها ، قلت: الشاة بدرهمين ، فقال: الله أكبر ، ثم قال: ويحك هل أصيب من المسلمين غير ذلك الرجل؟ قلت: لا ، قال: ما يسرني ، إنما يسركم أضعف لكم ، وإنه أصيب من المسلمين رجل آخر .

قال: وجئت إلى ذكر السفطين فأخبرته خبرهما ، فبالله الذي لا إله إلا هو لكأنما أرسلت عليه الأفاعي والأساود والأراقم ، ثم أقبل علي [بوجهه] آخذا بحقويه ، وقال: لله أبوك وعلى ما يكونان لعمر ، والله ليستقبلن المسلمون الظمأ والجوع في نحور العدو ، وعمر يغدو بين أهله ويروح إليهم يتبع إماء المدينة ، ارجع بما جئت به فلا حاجة لي فيه ، فقلت: يا أمير المؤمنين ، إنه أبدع بي وبصاحبي ، فاحملنا ، فقال: لا ، ولا كرامة للآخر ، ما جئت بما أسر به فأحملك ، قلت: يا لعباد الله أيترك رجل بين أرضين ، قال: أما لولا أن قلتها [قلت] يا برقي انطلق به فاحمله وصاحبه على ناقتين ظهيرتين من إبل الصدقة ثم انخس بهما حتى تخرجهما من الحرة ، ثم التفت إلي فقال: أما لئن شتا المسلمون في مشتاهم قبل أن يقتسما بينهم لأعذرن منك ومن صويحبك ، ثم قال: إذا انتهيت إلى البلاد فانظر أحوج من ترى من المسلمين فادفع إليه الناقتين .

ثم خرجنا من عند عمر ، وسرنا حتى آتينا سلمة بن قيس ، فأخبرناه الخبر ، فقال: ادع لي المسلمين ، فلما جاءوا قال لهم: إن أمير المؤمنين قد وفر عليكم سفطيكم ، ورآكم أحق بهما منه ، فاقتسموا على بركة الله ، فقالوا: أصلحك الله أيها الأمير ، إنه ينبغي لهما نظر وتقويم وقسمة . فقال: والله لا تبرحون وأنتم تطالبوني منها بحجر واحد . فعد القوم وعد الحجارة ، فربما طرحوا إلى الرجل الحجرين ، وفلقوا الحجر بين اثنين . [ ص: 280 ]

[أنبأنا محمد بن الحسين ، وإسماعيل بن أحمد ، قالا: أخبرنا ابن النقور ، أخبرنا المخلص ، أخبرنا أحمد بن عبد الله ، حدثنا السري بن يحيى ، حدثنا شعيب ، حدثنا سيف ، عن عمرو بن محمد ] ، عن الشعبي ، قال: لما قدم بغنائم نهاوند على عمر بكى ، فقال عبد الرحمن بن عوف : ليس هذا مكان حزن [ولا بكاء] ، ولكن بشرى ، فافرح واحمد الله ، فقال: ويحك يا ابن عوف ، والله ما كثرت الصفراء والبيضاء في قوم قط إلا فتنوا فتقاتلوا وتدابروا حتى يدمر الله عليهم .

قال: وجعل أبو لؤلؤة لا يلقى من السبي صغيرا إلا مسح رأسه وبكى ، وقال: أكل عمر كبدي ، ولا يلقى أيضا كبيرا إلا بكى إليه وأسعده ، وكان نهاونديا فأسرته الروم أيام فارس .

وافتتحت نهاوند في أول سنة تسع عشرة . وقد ذكر أبو معشر أن فتح جلولاء وقيسارية كان في سنة تسع عشرة . قال: وكان الأمير على فتح قيسارية معاوية بن أبي سفيان .

وذكر ابن إسحاق أن فتح الحيرة والرها وحران ورأس العين ونصيبين كان في سنة تسع عشرة

التالي السابق


الخدمات العلمية