الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[يوم أغواث]

ثم أصبح القوم من الغد على تعبية وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ، وأسلم الرثيث إلى النساء يقمن عليهم ، ودفن الشهداء ، فبينا هم كذلك إذا [ ص: 173 ] طلعت نواصي الخيل من قبل الشام - وكان فتح دمشق قبل القادسية بشهر - وذلك أنه قدم كتاب عمر إلى أبي عبيدة بصرف أهل العراق [أصحاب خالد ، ] فصرفهم ، فلما جاءوا سمي هذا اليوم يوم أغواث ، وأكثر المسلمون القتل في الأعاجم ، ولم تقاتل الأعاجم يومئذ على فيل؛ لأن أنيابها كانت قد تكسرت ، وحمل المسلمون رجالا على إبل قد ألبسوها ، فهي مجللة مبرقعة يتشبهون بالفيلة ، فلقي أهل فارس يوم أغواث أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة يوم أرماث ، وجعل رجل من المسلمين يقال له: سواد يتعرض بالشهادة فأبطأت عليه ، فتعرض لرستم يريده ، فقتل دونه ، وحمل القعقاع بن عمرو يومئذ ثلاثين حملة ، قتل في كل حملة رجل ، وكان آخر من قتل بزرجمهر الهمذاني .

وروى مجالد ، عن الشعبي ، قال: كانت امرأة من النخع لها بنون أربعة شهدوا القادسية ، فقالت لبنيها: إنكم أسلمتم فلم تبدلوا ، وهاجرتم فلم تثوبوا ، ولم تنب بكم البلاد ، ولم تقحمكم السنة ، ثم جئتم بأمكم عجوز كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ، والله إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره ، فأقبلوا يشتدون ، فلما غابوا عنها رفعت يديها قبل السماء وقالت: اللهم ادفع عن بني ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ، ما كلم منهم رجل [كلما] ، فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفا ألفا من العطاء ، ثم يأتون أمهم فيلقونه في حجرها ، فترده عليهم وتقسمه فيهم على ما يرضيهم .

وقد رويت لنا هذه الحكاية أتم من هذا .

[أخبرنا المحمدان ابن أبي منصور ، وابن عبد الباقي ، قالا: أخبرنا جعفر بن أحمد ، قال: أخبرنا أحمد بن علي الثوري ، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله الدقاق ، قال: أخبرنا ابن صفوان ، قال: أخبرنا أبو بكر بن عبيد ، قال: حدثني أحمد بن حميد [ ص: 174 ] الأنصاري ، أنه حدث عن عبد الرحمن بن مغراء الدوسي ] ، عن رجل من خزاعة ، قال:

لما اجتمع الناس بالقادسية دعت خنساء بنت عمرو النخعية بنيها الأربعة ، فقالت: يا بني ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم ، والله ما نبت بكم الدار ولا أقحمتكم السنة ، ولا أرداكم الطمع ، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ، ولا عموت نسبكم ، ولا أوطأت حريمكم ، ولا أبحت حماكم ، فإذا كان غدا إن شاء الله ، فاغدوا لقتال عدوكم مستنصرين الله مستبصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد أبدت ساقها ، وقد ضربت رواقها فتيمموا وطيسها ، وجالدوا خميسها ، تظفروا بالمغنم والسلامة والفوز والكرامة في دار الخلد والمقامة .

فانصرف الفتية من عندها وهم لأمرها طائعون ، وبنصحها عارفون ، فلما لقوا العدو شد أولهم ، وهو يرتجز يقول:


يا إخوتا إن العجوز الناصحه قد أشربتنا إذ دعتنا البارحه     نصيحة ذات بيان واضحه
فباكروا الحرب الضروس الكالحه     فإنما تلقون عند الصائحة
[من آل ساسان كلابا نابحة]     قد أيقنوا منكم بوقع الجائحة
فأنتم بين حياة صالحة

أو منية تورث غنما رابحا

ثم شد الذي يليه وهو يقول:


والله لا نعصي العجوز حرفا     قد أمرتنا حدبا وعطفا
منها وبرا صادقا ولطفا     فباكروا الحرب الضروس زحفا
حتى تلفوا آل كسرى لفا     وتكشفوهم عن حماكم كشفا
إنا نرى التقصير عنهم ضعفا     والقتل فيهم نجدة وعرفا

[ ص: 175 ] ثم شد الذي يليه وهو يقول:

لست لخنساء ولا للأخرم     ولا لعمرو ذي السناء الأقدم
إن لم نذر في آل جمع الأعجم     جمع أبي ساسان جمع رستم
بكل محمود اللقاء ضيغم     ماض على الهول خصيم خضرم
إما لقهر عاجل أو مغنم     أو لحياة في السبيل الأكرم

نفوز فيها بالنصيب الأعظم

ثم شد الذي يليه وهو يقول:


إن العجوز ذات حزم وجلد     والنظر الأوفق والرأي السدد
قد أمرتنا بالصواب والرشد     نصيحة منها وبرا بالولد
فباكروا الحرب نماء في العدد     إما لقهر واختيار للبلد
أو منية تورث خلدا للأبد     في جنة الفردوس في عيش رغد

فقاتلوا جميعا حتى فتح الله للمسلمين ، وكانوا يأخذون أعطيتهم ألفين ألفين ، فيجيئون بها فيصبون في حجرها ، فتقسم ذلك بينهم حفنة بحفنة ، فما يغادر واحد عن عطائه درهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية