الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع عشرة

فمن الحوادث فيها وقعة نهاوند

قال ابن إسحاق : كانت في سنة إحدى وعشرين ، وقال غيره: في سنة ثماني عشرة .

وكان من حديث نهاوند أن النعمان بن مقرن كتب إلى عمر يخبره أن سعد بن أبي وقاص استعمله على جباية الخراج ، وأنه قد أحب الجهاد ، فكتب عمر إلى سعد: ابعث به إلى نهاوند ، ثم كتب عمر إلى النعمان: أما بعد ، فقد بلغني أن جموعا كثيرة قد جمعوا [لكم] بمدينة نهاوند ، فإذا أتاك كتابي هذا فسر [بأمر الله ، و] بعون الله [وبنصر الله] بمن معك من المسلمين . كذا في رواية .

وأصح من هذا ما [أخبرنا به أبو محمد يحيى بن علي المدبر ، أخبرنا أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن المأمون ، قال: أخبرنا علي بن عمر الدارقطني ، قال: قرئ على أبي محمد يحيى بن محمد بن صاعد وأنا أسمع: حدثكم يعقوب بن إبراهيم ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال: حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي عمران الجوني ، عن علقمة بن عبد الله المزني ] ، عن معقل بن يسار : [ ص: 268 ]

أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الهرمزان ، فقال: ما ترى؟ أن أبدأ بفارس أو بأذربيجان أو بأصبهان؟ قال: إن فارس وأذربيجان الجناحان ، والرأس أصبهان ، فإن قطعت أحد الجناحين يأتي الرأس بالجناح الآخر ، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان ، فابدأ بالرأس أصبهان .

فدخل عمر المسجد والنعمان بن مقرن يصلي ، فقعد إلى جنبه ، فلما قضى صلاته قال: إني أريد أن أستعملك ، قال: أما جابيا فلا ، ولكن غازيا ، قال: وأنت غاز .

فوجهه إلى أصبهان ، وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه . فأتاهم العدو وبينه وبينهم النهر ، فأرسل إليهم المغيرة بن شعبة فأتاهم ، فقيل لملكهم -وكان يقال له ذو الجناحين: إن رسول العرب على الباب ، فشاور أصحابه ، فقال: ما ترون؟ أقعد له في [بهجة الملك] وهيئة الملك أو [أقعد له في] هيئة الحرب؟ فقالوا: اقعد له في هيئة الملك ، فقعد على سريره ووضع التاج على رأسه ، وقعد أبناء الملوك نحو السماطين ، عليهم القرط وأسورة الذهب وثياب الديباج ، ثم أذن له ، فدخل ومعه رمحه وفرسه ، فجعل يطعن برمحه في بسطهم ليتطيروا ، وقد أخذ بضبعيه رجلان ، فقام بين يديه ، فتكلم ملكهم فقال:

إنكم معشر العرب أصابتكم مجاعة وجهد ، فإن شئتم أمرنا لكم ورجعتم ، فتكلم المغيرة ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: أما بعد ، فإنا معشر العرب كنا نأكل الجيف والميتة ، ويطئونا الناس ولا نطؤهم ، وأن الله ابتعث منا نبيا صلى الله عليه وآله وسلم كان أوسطنا نسبا ، وأصدقنا حديثا -فذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو أهله- وأنه وعدنا أشياء وجدناها كما قال ، وأنه وعدنا فيما وعدنا أنا سنظهر عليكم ونغلب على ما ها هنا ، وإني أرى عليكم بزة وهيئة ، وما أرى من خلفي يذهبون حتى يصيبوها ، قال: ثم قالت لي نفسي: لو جمعت جراميزك فوثبت وثبة فقعدت مع العلج على سريره حتى يتطير . قال: فوجدت غفلة ، فوثبت ، فإذا أنا معه على سريره . قال: فأخذوه فجعلوا يتوجؤونه ويطئونه بأرجلهم ، قال: قلت: هكذا [ ص: 269 ] تفعلون بالرسل ، إنا لا نفعل هذا برسلكم ، إن كنت أسأت أو أخطأت فإن الرسل لا يفعل بهم هذا ، قال الملك: إن شئتم قطعتم إلينا ، وإن شئتم قطعنا إليكم . قال: قلت: بل نقطع إليكم ، فقطعنا إليهم ، فتسلسلوا كل عشرة في سلسلة ، وكل خمسة ، وكل ثلاثة ، قال: فصاففناهم ، فرشقونا حتى أسرعوا فينا فقال -يعني النعمان: إني هاز لوائي ثلاث هزات ، فأما الهزة الأولى فقضى رجل حاجته وتوضأ ، وأما الثانية فنظر رجل في سلاحه وفي شسعه فأصلحه ، وأما الثالثة فاحملوا ولا يلوين أحد على أحد ، فإن قتل النعمان فلا يلوين عليه أحد ، وإني داع الله بدعوة ، فعزمت على كل امرئ منكم لما أمن عليها ، اللهم أعط النعمان اليوم الشهادة في نصر المسلمين ، وفتح عليهم ، فهز لواءه أول مرة ، ثم هزه الثانية ، ثم هزه الثالثة ، ثم تمثل درعه ، ثم حمل فكان أول صريع رحمه الله .

قال معقل : فأتيت عليه فذكرت عزيمته ، فجعلته علما ، ثم ذهبت ، فكنا إذا قتلنا رجلا شغل عنا أصحابه ، ووقع ذو الجناحين عن بغلته فانشق بطنه . [قال:] فهزمهم الله . ثم جئت إلى النعمان ومعي إداوة فيها ماء ، فغسلت عن وجهه ، فقال: من أنت؟

قال: قلت: معقل بن يسار ، فقال: ما فعل الناس؟ قلت: فتح الله عليهم ، قال: الحمد لله ، اكتبوا بذلك إلى عمر ، وفاضت نفسه رحمه الله .

قال: واجتمع الناس إلى الأشعث بن قيس ، وفيهم ابن عمر وابن الزبير -أو الزبير- وعمرو بن معديكرب وحذيفة ، فبعثوا إلى أم ولده ، فقالوا: ما عهد إليك عهدا ، فقالت: ها هنا سفط فيه كتاب ، فأخذوه ، وكان فيه: فإن قتل النعمان ففلان ، فإن قتل فلان ففلان .

[أخبرنا محمد بن الحسين ، وإسماعيل ، قالا: أخبرنا ابن النقور ، قال: أخبرنا المخلص ، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله ، قال: حدثنا السري ، قال: حدثنا شعيب ، قال: حدثنا سيف ] ، عن محمد ، وطلحة ، وعمرو ، وسعيد ، قالوا: [ ص: 270 ]

كان سبب نهاوند في زمان سعد بن أبي وقاص ، واجتماع الأعاجم [إليها خروج] بعوث المسلمين نحوهم ، وكانت الوقعة مع عزله ، وقد أقر عمر رضي الله عنه على الكوفة خليفته عبد الله بن عتبان ، وكانت الوقعة والفتح في إمارة عبد الله ، وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد الملك ، فتوافوا إلى نهاوند ، [فتوافى إليها من بين خراسان إلى حلوان ، ومن بين الباب إلى حلوان ، ومن بين سجستان إلى حلوان ، فاجتمعت حلبة فارس والفهلوج أهل الجبال من] بين الباب إلى حلوان ثلاثون ألف مقاتل ، ومن بين خراسان إلى حلوان ستون ألف مقاتل ، ومن بين سجستان إلى فارس وحلوان ستون ألف مقاتل ، واجتمعوا على الفيرزان .

قالوا: إن عمر قد تناولكم وأتى أهل فارس في عقر دارهم ، وهو آتيكم إن لم تأتوه ، وقد أخرب بيت مملكتكم ، وليس بمنته إلا أن تخرجوا من في بلادكم من جنوده ، وتقلعوا هذين المصرين ، ثم تشغلوه في بلاده وقراره ، فتعاهدوا على ذلك وكتبوا بينهم كتابا . فكتب عبد الله إلى عمر أنه قد اجتمع منهم خمسون ومائة ألف [مقاتل] ، فإن جاءونا قبل أن نبدأهم ازدادوا جرأة وقوة ، وإن نحن عاجلناهم كان ذلك لنا .

وقدم بالكتاب قريب بن ظفر العبدي ، فقال له عمر: ما اسمك؟ قال: قريب ، قال: ابن من؟ قال: ابن ظفر ، فتفاءل بذلك وقال: ظفر قريب إن شاء الله ، ولا قوة إلا بالله ، ونودي في الناس: الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، ووافاه سعد فتفاءل بمجيء سعد ، ثم قام عمر خطيبا ، وأخبر الناس الخبر واستشارهم ، وآل الأمر إلى أن ولى النعمان بن مقرن .

فلما التقوا سار في الناس ، فجعل يقف على كل راية ، فيحمد الله ويثني عليه ويقول: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين ، وما وعدكم من الظهور ، وقد أنجز لكم هوادي ما وعدكم ، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه ، والله منجز وعده ، ولا يكونن على [ ص: 271 ] دنياهم أحنى منكم على دينكم ، وإنكم تنتظرون إحدى الحسنيين: من بين شهيد حي مرزوق ، أو فتح قريب ، فاستعدوا ، فإني مكبر ثلاثا ، فإذا كبرت التكبيرة الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليشد سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإني حامل إن شاء الله فاحملوا معا ، اللهم أعز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد .

فلما كبر وحمل حمل الناس ، فاقتتلوا قتالا لم يسمع السامعون بمثله ، فزلق فرس النعمان به في الدماء فصرعه ، وأصيب النعمان حينئذ ، فتناول الراية منه نعيم بن مقرن ، وسجى النعمان بثوب ، وأتى حذيفة فأقام اللواء ، وقال المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم ، لكيلا يهن الناس ، فاقتتلوا حتى إذا أظلم الليل ، انكشف المشركون ، والمسلمون ملظون بهم ، فتهافتوا في الحفر الذي نزلوا دونه ، فمات منهم مائة ألف أو يزيدون ، سوى من قتل في المعركة ، ولم يفلت إلا الشريد ، ونجا الفيرزان ، فهرب نحو همذان ، فأتبعه نعيم بن مقرن ، وقدم القعقاع قدامه ، فأدركه حتى انتهى إلى ثنية همذان ، والثنية مشحونة بين بغال وحمير موقرة عسلا ، فحبسته الدواب على أجله ، فقتله على الثنية . وقال المسلمون: إن لله جنودا من عسل ، واستاقوا العسل ، ومضى الفلال حتى انتهوا إلى همذان والخيل في آثارهم ، فدخلوها ، فنزل المسلمون عليهم ، وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم على أن يضمن لهم همذان [ودستبى] .

ودخل المسلمون بعد هزيمة المشركين يوم نهاوند مدينة نهاوند واحتووا ما فيها وما حولها .

فبينما هم يتوقعون ما يأتيهم من إخوانهم بهمذان ، أقبل الهربذ على أمان ، فقال لحذيفة: أتؤمنني على أن أخبرك بما أعلم؟ قال: نعم ، قال: إن النخيرجان وضع عندي [ ص: 272 ] ذخيرة لكسرى ، فأنا مخرجها لك على أماني وأمان من شئت ، فأعطاه ذلك ، فأخرج له جوهر كسرى [كان] أعده لنوائب الزمان ، فنظروا في ذلك فأجمع رأي المسلمين على رفعه إلى عمر وجعله له ، فبعثوا به . وقسم حذيفة بين المسلمين غنائمهم ، فكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف ، وسهم الراجل ألفين .

وكان عمر يتململ في الليالي التي قدر أنهم يلتقون فيها ، فبينا رجل من المسلمين قد دخل المدينة ليلا لحق به راكب ، فقال: يا عبد الله ، من أين أقبلت؟ قال: من نهاوند ، قال: ما الخبر؟ قال: [الخبر خير] فتح الله على النعمان ، واستشهد ، وقسم المسلمون الفيء فأصاب الفارس ستة آلاف ، فدخل الرجل ، فأصبح يتحدث ، فبلغ عمر الخبر ، فأرسل إليه يسأله ، فأخبره ، فقال: صدقت ، هذا بريد الجن ، ثم جاء الخبر والأخماس والذخيرة فرد الذخيرة إلى حذيفة ، وقال: اقسمها على ما أفاءها الله عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية