الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
275 - وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب "الإبانة" ، قال أبو بكر عبد العزيز ، قال : أبو بكر أحمد بن هارون : قال : سألت ثعلبا عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لأحرقت سبحات وجهه " فقال : السبحات - يعني من ابن آدم - الموضع الذي يسجد عليه .

فإن قيل : الحجاب راجع إلى الخلق لأنهم هم المحجوبون عنه بحجاب يخلقه [ ص: 277 ] فيهم ، وهو عدم الإدراك في أبصارهم ، ولا يجوز أن يكون الله سبحانه محتجبا ولا محجوبا بحجاب لأن ما ستر بالحجاب ، فالحجاب أكبر منه ويكون متناهيا محاذيا جائزا عليه المماسة ، ومنه قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فجعل الكفار محجوبين عن رؤيته لما خلق فيه من الحجاب ، ويبين هذا أنه لم يضف الحجاب إلى الله تعالى بل أطلق ذكر الحجاب .

ويبين صحة هذا ما روى علي كرم الله وجهه ، رواه عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي أنه مر بقصاب وهو يقول : لا والذي احتجب بسبعة أطباق ، فقال علي رضي الله عنه : " ويحك يا قصاب إن الله لا يحتجب عن خلقه " وفي لفظ آخر : " إن الله لا يحتجب عن خلقه بشيء ولكن حجب خلقه عنه " .

قيل : هذا غلط ، لما بينا أننا نثبت حجابا لا يفضي إلى التناهي والمحاذاة والمماسة ، كما أثبتنا رؤيته لا على وجه التناهي والمحاذاة وقوله : " لم يضف الحجاب إليه " غلط لأن في حديث أبي موسى : " حجابه النور " وهذا صريح في الإضافة .

وأما قوله : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فلسنا نمنع أن يكون الخلق في حجاب عن ربهم ، ولا نمنع أن يكون دونه حجاب من نور لورود الشرع بذلك ، فليس في الآية ما ينفي ذلك .

وأما ما روي عن علي فإنما أنكر على القصاب حجابا معقولا ، لأن القصاب قال : احتجب بالسماوات ، فرجع الإنكار إلى ذلك ، ونحن لا نصف الحجاب بذلك وعلى أنه يعارض قول علي ما ذكره أحمد بن سليمان النجاد بإسناده ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : " والذي نفسي بيده إن دون الله يوم القيامة سبعون [ ص: 278 ] ألف حجاب إن منها حجابا من ظلمة ما ينفذها شيء ، وإن منها لحجابا من نور ما يستطيعه شيء ، وإن منها حجابا لا يسمعها أحد لا يربط الله على قلبه إلا انخلع فؤاده " فإن قيل : قوله في حديث ابن سمرة : " بينه وبين الرب حجاب " المراد به حجاب العبد من رحمة الرب ، يعني أنه كان ممنوعا من الرحمة ، وقوله : " أدخله على ربي " معناه : في رحمة ربي قيل : من سبق في عمله أنه يرحمه لم يجعل بينه وبين رحمته حجاب ، وكذلك من سبق في عمله عذابه لا يجعل بينه وبين العذاب حجاب .

وأما تأويلهم الدخول ، على الدخول في الرحمة فلا يصح كما لم يصح تأويل قوله : " ترون ربكم " على رؤية رحمته .

فإن قيل : قوله : " لو كشفها عن وجهه " معناه : لو كشف رحمته عن النار لأحرقت سبحات وجهه أي أحرقت محاسن وجه المحجوب عنه بالنار ، فالهاء عائدة على المحجوب لا إلى الله تعالى قيل : قد بينا أن السبحات صفة لوجهه سبحانه ، وأن الإحراق يكون لجميع ما يدركه نوره [ ص: 279 ] فإن قيل : لا يصح أن يكون المحدث ولا القديم محجوبا بشيء من سواتر الأجسام المغطية المكتنفة المحيطة ، وإنما يقال لهذه الأجسام الساترة إنها حجاب عن رؤية المحدث لما رآه ، من أجل أن المنع من الرؤية يحدث عنده فيسمى باسم ما يحدث عنده ، وعلى هذا ما نقوله إن البارئ سبحانه لا نراه في الدنيا لأنه في حجاب على طريق المجاز ، وإنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع ، وإنما كان كذلك لأن المانع من معرفة الشيء ورؤيته ومعاينته ما يمنع من وجود معرفته ومعاينته ، وما يمنع من ذلك فهو الذي يضاد وجوده ، وذلك لا يصح إلا في العرضين المتضادين المتعاقبين ، ولا يصح أن يكون الجسم منها ولا مانعا من عرض أصلا لأنه لا يصح أن يكون بين العرضين والجسم تناف وتضاد .

قيل : هذا لا يمنع من إطلاق اسم الحجاب على القديم سبحانه كما لا يمنع من إطلاقه على غيره ، وإن كان هذا المعنى الذي ذكروه موجودا فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية