الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
417 - وقد أومأ إليه أحمد فيما خرجه في الرد على الجهمية ، فقال : إذا أردت أن تعرف أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أنه في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان ، فقل له : أليس كان الله ولا شيء فحين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجا من نفسه ؟ فإن قال : خلقه في نفسه كفرا! وإن قال : خلقه خارجا من نفسه ثم دخل فيهم كان أيضا كفرا ، حين دخل في مكان وحيز بل وحش ، وإن قال : خلقهم خارجا من نفسه ولم يدخل فيهم; رجع عن قوله وهو قول أهل السنة وهذا من كلام أحمد يدل على إثبات النفس ، لأنه جعل ذلك حجة عليهم ، ولو لم يعتقد ذلك لم يحتج به ، وقد أخبر بذلك في آي من كتابه منها قوله تعالى : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) وقوله تعالى : ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) وقوله : ( ويحذركم الله نفسه ) وقوله : ( واصطنعتك لنفسي ) ولأنه ليس في إثبات النفس ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه ، لأنا لا نثبت نفسا منفوسة مجسمة مركبة ذات روح ، ولا نثبت نفسا بمعنى الدم على ما تقوله العرب : له نفس سائلة وليست له نفس ويريدون بذلك الدم ، لأن الله سبحانه يتعالى عن ذلك ، بل نثبت نفسا هي صفة زائدة على الذات ، كما أثبت له حياة ونفسا فقلنا حي بحياة ، وباق ببقاء ، [ ص: 445 ] وإن لم يكن حياته وبقاؤه عرضين كحياتنا وبقائنا ، كذلك في النفس فإن قيل : فأثبتوا له روحا لأنه قد وصف نفسه بذلك ، فقال تعالى : ( ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ) قيل : لا نثبت ذلك ، لأن السمع لم يرد بذلك على وجه الصفة للذات ، وقوله : ( ونفخت فيه من روحي ) المراد به أمره ، لقيام الدليل على أن صفات ذاته لا تحل المحدثات ، ويفارق هذا إثبات النفس ، لأنه ليس في إثباتها ما يحيل صفاته ولا يخرجها عما تستحقه لما ذكرنا فإن قيل : ليس المراد بالنفس ها هنا إثبات صفة ، وإنما المراد بذلك الذات ، كما تقول العرب : هذا نفس الأمر ، ويريدون به إثبات الأمر لا أن له نفسا ، وقوله : ( ويحذركم الله نفسه ) معناه : عقوبته ، وقيل : إياه ، وقوله : ( تعلم ما في نفسي ) أي في غيبي ( ولا أعلم ما في نفسك ) أي غيبك ، وقيل في قوله : ( ولا أعلم ما في نفسك ) يرجع إلى نفس عيسى ، وأضاف نفسه إلى الله من طريق الملك والخلق ، فيكون معناه : لا أعلم ما في ملكك مما خلقته إلا ما أعلمتني ، وقوله : ( كتب ربكم على نفسه ) معناه : كتب عليه ، وقوله : ( واصطنعتك لنفسي ) معناه : اصطنعتك لذاتي أو لرسالتي ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ذكرته في نفسي " معناه : أخفيت ثوابه كما أخفى ذكري في نفسه ، ومنه قوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن الله عز وجل : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين [ ص: 446 ] رأت ، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " قيل : هذا غلط ، لأنه إن جاز حمل النفس على الذات; جاز حمل الحياة والبقاء على الذات فيقال : ذات حية ذات باقية ، وقد أجمعنا ومثبتو الصفات على أنه حي بحياة وباق ببقاء ، كذلك جاز أن يكون ذاتا بنفس ، ولأن هذا يؤدي إلى جواز القول بأن الله نفس ، وأنه يجوز أن يدعى فيقال : يا نفس اغفر لنا ، وقد أجمعت الأمة على منع ذلك .

وأما تأويل قوله تعالى : ( واصطنعتك لنفسي ) معناه : لذاتي ورسالتي ، فلا يصح لأنه يسقط فائدة التخصيص بموسى ، لأن غيره من الأنبياء اصطنعه لذاته ورسالته ، فوجب أن يكون لتخصيص النفس ها هنا فائدة وجواب آخر : وهو أن قوله : ( واصطنعتك لنفسي ) المراد به الله الذي له النفس ، وكذلك قوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) المراد به الله الذي له النفس ، وكذلك قوله : ( ويحذركم الله نفسه ) المراد به الله الذي له النفس وجواب آخر : وهو أنه لا يصح حمل قوله : ( ويحذركم الله نفسه ) على عقوبته لأنه قد قال في سياقها : ( وإلى الله المصير ) ولو كان على ما [ ص: 447 ] قالوه; لكان تقديره : وإلى عقوبة الله المصير ، ولا يصح أيضا حمل قوله : ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) بمعنى عليه ، لأن ذلك لا ينفي إثبات النفس صفة له ، فيحصل تقديره ، كتب ربكم عليه ذي النفس ، لأن النفس صفة له ، ومثل هذا قوله تعالى : ( أنزله بعلمه ) والمراد به بعلمه وذاته ، لأن علمه لا يختص بذلك ، ولا يصح أيضا حمل قوله : ( ولا أعلم ما في نفسك ) على غيبك لأن ذلك يسقط فائدة التخصيص ، لأنه غير عالم بغيب غير الله تعالى ، فعلم أن المراد به النفس التي هي صفة ، وكذلك لا يصح حمله لا أعلم ما في ملكك ، لأنه غير عالم بما في ملك غير الله من المخلوقين ، فلا فائدة من تخصيصه بالله تعالى ، فعلم أن المراد به ما ذكرنا .

وأما حملهم النفس على إخفاء الثواب فلا يصح ، لأنه لا فائدة في إخفاء الثواب ، بل الفائدة في إظهاره لأنه يحصل به الترغيب في الطاعات ، والحث عليها ، ولهذا عدد الجنة وأنهارها وثمارها ، كل ذلك حثا على الترغيب في الطاعات ، وقوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) فإنه لم يخف ذكر الثواب ، ألا ترى أنه قال تعالى : ( من قرة أعين ) فأثبت أن هناك ما تقر به العين ، وإنما أخفى تفصيل الثواب ، وهكذا الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت " معناه : لم تر وتسمع بتفصيله ، فأما جملته فقد أعلمنا به ، ولا يجوز إثبات روح .

التالي السابق


الخدمات العلمية