الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
405 - وقد روى أبو الحفص العكبري بإسناده ، عن أبي الدرداء ، قال : تذاكرنا [ ص: 432 ] عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدا لا يزاد في عمره الذي أجله الله له ، ولكن الزيادة في العمر : الرجل يموت ويدع ذرية صالحة فيدعون له من بعده ، ويتبعونه بالعمل الصالح " فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ) قيل : معنى ذلك : أي من قل عمره أو كثر فهو يمضي إلى أجله الذي كتب له ، وقوله : ( ولا ينقص من عمره ) كل يوم حتى ينتهي إلى أجله ( إلا في كتاب ) ، يعني في اللوح المحفوظ مكتوب قبل أن يخلقه ، قد بين قدره ، لا أنه يكون زائدا ثم ينقص ، أو ناقصا ثم يزيد ، لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون الله تعالى عالما بالأشياء قبل كونها على حسب ما يكون ، ولا يجوز ذلك في وصفه ، فعلم أن المراد به تعريفنا أن التفاوت الواقع بين الأعمال في اختلاف مددها في الطول والقصر والزيادة والنقصان ، كل ذلك في كتاب مبين على حكم واحد ، صدر عن علم سابق محيط [ ص: 433 ] والمخالف في هذا الأصل " القدرية " لأنهم يقولون بقطع الأجل ، ومعنى ذلك أن يكون الله تعالى قد جعل لبعض الأحياء مدة حياته خمسين سنة ، ثم يقتله القاتل فيجعل ذلك سنة ، ويقطع عليه بلوغه المدة التي قدر الله له ذلك .

وهذا قول يخالف ما تقدم من الكتاب والسنة ، ويؤدي إلى وصف الله عز وجل بالقهر والغلبة ، لأنه إذا أراد أن يكون أجل زيد خمسين سنة ، وأراد غيره أن يكون سنة ، فلم يمكن من بلوغه الأجل الذي أجله الله له ، وأراد أن يبلغه عليه أجله ، فقد قهره في مراده وغلبه في حكمه وذلك لا يليق بوصفه [ ص: 434 ] ولأن من قال منهم بقطع الأجل يلزمه أن يقول بزيادة الأجل إذا وصل رحمه وتجنب الآفات ، وهذا لازم لمن فرق بين الأمرين ومن جمع بين الزيادة والنقصان; فقد خالف ظاهر الكتاب والسنة فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ( يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) قيل : قد قيل في وجوه : أحدهما : أن معناه أن الله ينسخ من الأحكام ما يشاء وذلك محوه ، ويثبت فيها ما يشاء وهو إثباته وتقديره ، وقد يوصف تعالى بالنسخ والإثبات ، ولا يدعو ذلك إلى البداء ولا إلى الزيادة في العمر وقيل فيه : معناه يمحو ما سبق من الذنوب بالتوبة المتعقبة لها ، ويثبت التوبة وحكمها وقيل فيه : إنه يمحو بياض النهار ويثبت سواد الليل ، ويثبت بياض النهار ويمحو سواد الليل وقيل : معناه تعريفنا أن الإيجاد والإعدام والإثبات والنفي متعلق بمشيئته على حسب ما سبق به علمه ، وجرى به قلمه ، لا يكون ذلك إلى غيره أو من غيره [ ص: 435 ] فإن قيل : فما معنى قوله تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام إنه قال لقومه : ( أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ) - وقال عز وجل في آية أخرى : ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون ) قيل : أما قول نوح إنه يؤخرهم إلى أجل مسمى إن آمنوا وبلغوه يكون أجلا لهم ، ولم يثبت الله تعالى لهم أجلا لم يبلغوه ، ولا قال إلى أجل لكم مسمى ، بل لم يضف إليهم الأجل ونكره فبان أن المراد أجلا من الآجال ، لو آمنوا وبلغوه كان لهم أجلا ، يبين صحة هذا قوله في سياقها : ( إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) يريد بذلك ما هو لهم أجل فدل على ما قلناه وأما قوله تعالى : ( ثم قضى أجلا وأجل مسمى ) فهو أجل الدنيا والآخرة ، ولذلك قال : ( ثم أنتم تمترون ) أي : تشكون في البعث ، وهو الأجل المسمى للثواب والعقاب ، وأجل الدنيا هو المسمى للفناء والتكليف فيه [ ص: 436 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية