الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
439 - حدثنا أبو القاسم ، عن أبي الفتح قال : قرئ على أبي القاسم ابن بنت منيع وأنا أسمع ، حدثكم محمد بن حميد الرازي ، نا إبراهيم بن المختار قال : نا ابن جريج ، أن زمعة بن صالح أخبره ، أن سلمة بن وهرام أخبره ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من الغمام طاقات يأتي الله تعالى فيها محفوفا بالملائكة ، وذلك قوله تعالى : ( إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ) " وإذا كان ظاهر القرآن والسنة يشهد له; وجب إمراره على ظاهره ، كما وجب إمرار غيره من الصفات ، إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته ، وذلك أنا لا نصف مشيه ووقوفه على أهل الدرجات وانتهاءه إلى مجلسه عن انتقال وزوال ، بل نطلق ذلك كما أطلقنا استواءه على العرش لا عن انتقال مع قوله : ( ثم استوى على العرش ) و " ثم " في كلام العرب للمهلة والتراخي ، وكما أثبتنا تجليه للجبل ولموسى لا عن انتقال ، كذلك ها هنا ويشهد لهذا الخبر على أصولنا نزوله إلى سماء الدنيا ووضعه القدم ، ووطيه بوج ، [ ص: 471 ] وقد تقدم الكلام في ذلك .

فإن قيل : محمد بن كعب وقع إليه كتب من يهود قريظة فكان ينظر فيها فيروي عنها ، وقيل : إن الذي رواه عنه زمعة وسلمة بن وهرام وعكرمة وكلهم ضعفاء قيل : هذا غلط ، لأن الحديث الذي رويناه غير موقوف على محمد بن كعب ، وإنما رواه عن عمر بن عبد العزيز وهو من أعيان التابعين وعلمائهم .

ولو كان موقوفا على محمد بن كعب لم يضر أيضا لأن محمد بن كعب من العلماء الثقات ، روى عن ابن عباس ، وعن جابر وغيرهما من الصحابة ، ولا يجوز أن يظن به أنه يروى في شرعنا ما هو باطل منسوخ ، ويجب أن يحسن الظن فيه ولأنا قد بينا فيما تقدم أن سائر الشرائع لا تختلف فيما يتعلق بصفات الله تعالى .

وأما قولهم : رواه زمعة ، وسلمة ، وعكرمة وهم ضعفى ، فلا يصح لأن الإسناد الذي رويناه من طريق محمد بن كعب ليس فيه واحد من هؤلاء ، وإنما ذلك في حديث ابن عباس ، وقد ذكرنا طريق إسناد محمد بن كعب مع أن هؤلاء ثقات عدول لا نعلم أحدا أطعن عليهم ولا قدح في عدالتهم ولا امتنع من الرواية عنهم فإن قيل : نحمل قوله : " يمشي " يرجع إلى أفعاله ، مثل قولنا : يعدل ويحسن ويخلق ويحرك ويشكر ، وقوله : ( في ظلل من الغمام ) معناه : [ ص: 472 ] مقدرها ومدبرها ، أو على فوق الغمام لا على أنه فيها كقوله : ( فسيحوا في الأرض ) أي : فوقها ، وقوله : ( ولأصلبنكم في جذوع النخل ) أي : على جذوعها ، ويحتمل أن يحمل وقوفه على أهل الدرجات يعني يكرم أهل الدرجات درجة بعد درجة ، وقوله : " حتى ينتهي إلى مجلسه " معناه العود إلى أفعاله قبل أن يحدث لهم ما أحدث ، كما يقال : جاء الخير يعدو عدوا ، والمراد به سرعة الإقبال عليك .

قيل : هذا غلط ، أما حمل المشي على أفعاله فلا يصح لأن فيه إسقاط فائدة التخصيص بذلك اليوم ، لأن أفعاله وأوامره جائزة قبل ذلك اليوم ، ولأنه أضاف ذلك إلى الغمام ، وذلك غير مختص به ، ولأنه إن جاز حمله على ذلك; وجب أن يحمل قوله : " ترون ربكم " على رؤية أفعاله وكذلك تجليه للجبل على ظهور أفعاله ، ولما لم يجز ذلك هناك كذلك ها هنا .

وأما تأويل قوله : ( في ظلل من الغمام ) على تدبيرها فلا يصح ، لأنه لم يزل مدبرا لها في دار الدنيا ، فيجب أن يكون لهذا التخصيص بذلك اليوم فائدة ، وقولهم لذا نحمل " في " بمعنى " على " ، فإنما يجب الامتناع من إطلاق ذلك إذا كان فيه إثبات الظرف والمكان ، ونحن لا نصفه بالظرفية والمكان ، بل نصفه بذلك على نحو ما وصفناه جميعا بالعلو على العرش ، لا على معنى الجهة ، وإن كنا نعلم أن العلو ضد السفل ، وكما نجيز رؤيته في الآخرة في جهة ، وكما نحن في علم الله لا على معنى الظرف .

وأما تأويلهم " الانتهاء إلى مجلسه " على العود إلى أفعاله; فلا يصح ، لأن الأفعال لا تسمى مجلسا في لغة العرب ، وعلى أنه إنما يجب الامتناع من إطلاق المجلس إذا أريد به المكان والجهة ، فأما إذا لم يرد به ذلك لم يمتنع إطلاقه ، كالاستواء على العرش [ ص: 473 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية