الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
385 - وروى أبو بكر أحمد بن إسحاق الصبغي ، عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد ، قال : فوقفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها ، وأما الآخر فجلس خلفهم ، وأما الثالث فأدبر ذاهبا ، فلما فرغ [ ص: 412 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبرك عن ثلاثة نفر ، أما أحدهم فأوى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فآواه الله ، وأما الآخر فاستحيا الله فاستحيا الله منه ، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه " .

اعلم أنه غير ممتنع وصف الله تعالى بالحياء ، لا على معنى ما يوصف به المخلوقين من الحياء الذي هو انقباض وتغير وتجمع وخجل ، لاستحالة كونه جسما متغيرا تحله الحوادث لكن نطلق هذه الصفة كما أطلقنا وصفه سبحانه بالإرادة وإن خالفت إرادة المخلوقين لأن إرادته تقتضي وجوب المراد ، وإرادتنا لا تقتضي وجوبه ، وكذلك علمه يقتضي العلم بالمعدوم والموجود خلاف علمنا ، وكذلك رؤيته لا تقتضي وجوده في جهة ، خلاف رؤية بعضنا ، لأنه لو لم يوصف بالحياء جاز أن يوصف بضده وهو القحة ، ولما لم يوصف بضده جاز أن يوصف به ، ألا ترى أنا وصفناه بالعلم والقدرة والكلام ، لأن في نفيها إثبات أضدادها ، وذلك مستحيل عليه [ ص: 413 ] فإن قيل : يحمل قوله : " يستحي " على الترك فيكون قوله : " يستحي " بمعنى لا يترك يدي العبد خالية من خير إذا رفعها إليه في الدعاء ، قالوا : وعلى هذا يتأول قوله تعالى : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ) أي لا يترك ، لأن المستحي يترك للحياء أشياء ، كما يترك للإيمان وينقطع بالحياء عن المعاصي ، كما ينقطع بالإيمان عنها ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحياء شعبة من الإيمان " وكذلك قوله : " وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه " فيحتمل أن يكون معناه : أنه يترك أذى القوم بمزاحمتهم في مجلسه ، فترك الله عقوبته وعفا عنه ، وكذلك قوله : " إن ربكم حيي كريم " أنه يترك عقوبة العبد على خطيئته " .

قيل : هذا غلط لأنه يسقط فائدة التخصيص بهذه الصفة ، لأنه قد يعطى مع وجود هذه الصفة التي هي رفع اليدين ومع عدمهما ، فوجب حمله على فائدة ، ولا فائدة إلا إثبات هذه الصفة ، وجواب آخر : وهو أنه لو كان الحياء عبارة عن الترك; لحصل تقدير الخبر : إن الله يترك يده صفرا ، وقد قالوا إن معناه أنه لا يترك يده صفرا من العطاء ، فعلى هذا تحصيل عبارة عن ضد الترك ، فلا تستقيم العبارة والتأويل [ ص: 414 ] .

فأما قوله : " ستير " أي ساتر يستر على عباده كثيرا من عيوبهم ، ولا يظهرها عليهم ، وستير بمعنى ساتر كما جاء قدير بمعنى قادر ، وعليم بمعنى عالم [ ص: 415 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية