الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
304 - ونا أبو القسم بإسناده ، عن النواس بن سمعان الكلابي ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع رب العالمين جل اسمه ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " ، قال : " والميزان بيد الرحمن جل اسمه ، يرفع أقواما ، ويضع آخرين إلى يوم القيامة " [ ص: 316 ] .

اعلم أنه غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع والسبابة والتي تليها على ما روي في حديث جابر ، إذ ليس في حمله على ظاهره ما يحيل صفاته ، ولا يخرجها عما تستحقه ، لما بينا في الخبر الذي قبله ، لأنا لا نثبت أصابعا هي جارحة ولا أبعاضا ، وإنما نطلق ذلك كما أطلقنا تسمية اليدين والوجه والعين وغير ذلك ، ويكون المقصود بالخبر الفزع من الله سبحانه والمسارعة إلى الطاعات والخوف من سوء المنقلب [ ص: 317 ] فإن قيل : يحتمل أن يكون المراد بالأصابع الملك والقدرة ، ويكون فائدته أن قلوبهم في قبضته جارية على قدرته ، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا على طريق المثل ، كما يقال : ما فلان إلا في يدي وخنصري ويريد بذلك أنه عليه مسلط ، وأنه لا يتعذر عليه ما يريده منه ، ويحتمل أن الأصبعين ها هنا بمعنى النعمتين ، وقد تقول العرب : لفلان على فلان أصبع حسن ، إذا أنعم عليه نعمة حسنة ومنه قول الشاعر :

ضعيف العصا بادي العروق ترى له عليه إذا ما أجدب الناس إصبعا

. أي : إذا ما وقع الناس في الجدب والقحط له عليه أثر حسن ، ويحتمل أن يكون معناه بين أثرين من آثار الله عز وجل وفعلين من أفعاله قيل : هذا غلط لوجوه : أحدها : أن حمله على الملك والقدرة والنعم والآثار ، يسقط فائدة التخصيص بالقلب ، لأن جميع الأشياء هذا حكمها ، وأنها في ملكه وبنعمه وبآثاره .

الثاني : أن في الخبر ما يسقط هذا ، وهو قوله : " بين السبابة والتي تليها وأشار بيده هكذا وهكذا " وهذا يمنع من صحة التأويل .

الثالث : أنه لو كان المراد به النعمتين ، لكان القلب محفوظا بها ولم يحتج إلى الدعاء ، ولما دعا بالتثبيت ، لم يصح حمله على النعمتين ، وهذا الثالث جواب ابن [ ص: 318 ] قتيبة لأنه إذا كان بين نعمتين كان محفوظا بتلك النعمتين .

وأما قول الشاعر فهو على طريق المجاز ، فلا يجوز استعماله في صفات الله تعالى لأنه لا حقيقة للمجاز .

وأما قوله : " والميزان بيد الرحمن يرفع أقواما ويضع آخرين " فلا يمتنع إضافة ذلك إليه ، كما لم يمتنع إضافة الخلق لآدم بيده ، ونظير هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كتب التوراة بيده ، وخلق جنة عدن بيده " وليس لقائل أن يقول : إنا أثبتنا خلق آدم بيده من طريق مقطوع عليه وهو القرآن ، لأن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول صار في حكم المقطوع عليه ، وليس لهم أن يقولوا إن ذلك قصد به فضيلة آدم ، وهذا المعنى معدوم ها هنا ، لأن في ذلك تفضيلا لبعض خلقه على بعض ، تشريفا لهم وتكريما ، وقد قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم ) حديث آخر في الإصبع .

التالي السابق


الخدمات العلمية