الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          باب العين والنون وما يثلثهما

                                                          ( عنى ) العين والنون والحرف المعتل أصول ثلاثة : الأول القصد للشيء بانكماش فيه وحرص عليه ، والثاني دال على خضوع وذل ، والثالث ظهور شيء وبروزه .

                                                          فالأول منه عنيت بالأمر وبالحاجة . قال ابن الأعرابي : عني بحاجتي وعني - وغيره قال أيضا ذلك . ويقال مثل ذلك : تعنيت أيضا ، كل ذلك يقال - عناية وعنيا فأنا معني به وعن به . قال الأصمعي : لا يقال عني . قال الفراء : رجل عان بأمري ، أي معني به . وأنشد :


                                                          عان بقصواها طويل الشغل له جفيران وأي نبل



                                                          ومن الباب : عناني هذا الأمر يعنيني عناية ، وأنا معني [ به ] واعتنيت به وبأمره .

                                                          والأصل الثاني قولهم : عنا يعنو ، إذا خضع . والأسير عان . قال أبو عمرو : أعن هذا الأسير ، أي دعه حتى ييبس القد عليه . قال زهير :

                                                          [ ص: 147 ]

                                                          ولولا أن ينال أبا طريف     إسار من مليك أو عناء



                                                          قال الخليل : العنو والعناء : مصدر للعاني . يقال عان أقر بالعنو ، وهو الأسير . والعاني : الخاضع المتذلل . قال الله - تعالى - : وعنت الوجوه للحي القيوم . وهي تعنو عنوا . ويقال للأسير : عنا يعنو . قال :


                                                          ولا يقال طوال الدهر عانيها



                                                          وربما قالوا : أعنوه ، أي ألقوه في الإسار . وكانت تلبية أهل اليمن في الجاهلية هذا :


                                                          جاءت إليك عانيه     عبادك اليمانيه كيما تحج الثانيه
                                                          على قلاص ناجيه



                                                          ويقولون : العاني : العبد . والعانية : الأمة . قال أبو عمرو : وأعنيته إذا جعلته مملوكا . وهو عان بين العناء . والعنوة : القهر . يقال أخذناها عنوة ، أي قهرا بالسيف . ويقال : جئت إليك عانيا ، أي خاضعا . ويقولون : العنوة : الطاعة . قال :


                                                          هل أنت مطيعي أيها القلب عنوة



                                                          والعناء معروف ، وهو من هذا . قال الشيباني : ربت عنوة لك من هذا الأمر ، أي : عناء . قال القطامي :


                                                          ونأت بحاجتنا وربت عنوة     لك من مواعدها التي لم تصدق

                                                          [ ص: 148 ] قالوا : وتقول العرب : عنوت عند فلان عنوا ، إذا كنت أسيرا عنده . ويقولون في الدعاء على الأسير : لا فك الله عنوته ! بالضم ، أي إساره .

                                                          ومن هذا الباب ، وهو عندنا قياس صحيح : العنية ، وذلك أنها تعني كأنها تذل وتقهر وتشتد على من طلي بها . والعنية : أبوال الإبل تخثر ، وذلك إذا وضعت في الشمس . ويقولون : بل العنية بول يعقد بالبعر . قال أوس :


                                                          كأن كحيلا معقدا أو عنية على     رجع ذفراها من الليث واكف



                                                          قال أبو عبيد من أمثال العرب : " عنية تشفي الجرب " ، يضرب مثلا لمن يتداوى بعقله ورأيه ، كما تداوى الإبل الجربى بالعنية . قال بعضهم : عنيت البعير ، أي طليته بالعنية . وأنشد :


                                                          على كل حرباء رعيل كأنه     حمولة طال بالعنية ممهل



                                                          والأصل الثالث : عنيان الكتاب ، وعنوانه ، وعنيانه . وتفسيره عندنا أنه البارز منه إذا ختم . ومن هذا الباب معنى الشيء . ولم يزد الخليل على أن قال : معنى كل شيء : محنته وحاله التي يصير إليها أمره .

                                                          قال ابن الأعرابي : يقال ما أعرف معناه ومعناته . والذي يدل عليه قياس اللغة أن المعنى هو القصد الذي يبرز ويظهر في الشيء إذا بحث عنه . يقال : هذا [ ص: 149 ] معنى الكلام ومعنى الشعر ، أي الذي يبرز من مكنون ما تضمنه اللفظ . والدليل على القياس قول العرب : لم تعن هذه الأرض شيئا ولم تعن أيضا ، وذلك إذا لم تنبت ، فكأنها إذ كانت كذا فإنها لم تفد شيئا ولم تبرز خيرا . ومما يصححه قول القائل :


                                                          ولم يبق بالخلصاء مما عنت به     من البقل إلا يبسها وهجيرها



                                                          ومما يصححه أيضا قولهم : عنت القربة تعنو ، وذلك إذا سال ماؤها . قال المتنخل :

                                                          تعنو بمخروت

                                                          قال الخليل : عنوان الكتاب يقال منه : عنيت الكتاب ، وعننته ، وعنونته . قال : وهو فيما ذكروا مشتق من المعنى . قال غيره : من جعل العنوان من المعنى قال : عنيت بالياء في الأصل . وعنوان تقديره فعوال . وقولك عنونت فهو فعولت . قال الشيباني : يقال ما عنا من فلان خير ، وما يعنو من عملك هذا خير عنوا .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية