الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 283 ] ( عرق ) العين والراء والقاف أربعة أصول صحيحة : أحدها الشيء يتولد من شيء كالندى والرشح وما أشبهه . والآخر الشيء ذو السنخ ، فسنخه منقاس من هذا الباب . والثالث كشط شيء عن شيء ، ولا يكاد يكون إلا في اللحم . والرابع اصطفاف وتتابع في أشياء . ثم يشتق من جميع هذه الأصول وما يقاربها .

                                                          فالأول العرق ، وهو ما جرى في أصول الشعر من ماء الجلد . تقول : عرق يعرق عرقا . قال : ولم أسمع للعرق جمعا ، فإن جمع فقياسه أعراق ، كجمل وأجمال . ورجل عرقة : كثير العرق . ويقال : استعرق ، إذا تعرض للحر كي يعرق .

                                                          ومن الباب : جرى الفرس عرقا أو عرقين ، أي طلقا أو طلقين . وذلك من العرق . ويقال : عرق فرسك ، أي أجره حتى يتعرق . قال الأعشى :


                                                          يعالى عليه الجل كل عشية ويرفع نقلا بالضحى ويعرق



                                                          ويقال : اللبن عرق يتحلب في العروق حتى ينتهي إلى الضرع . قال الشماخ :


                                                          تضح وقد ضمنت ضراتها عرقا     من طيب الطعم حلو غير مجهود



                                                          ولبن عرق ، وهو أن يجعل في سقاء فيشد بجنب البعير فيصيبه العرق [ ص: 284 ] فيفسد . وأما عرق القربة في قوله : " جشمت إليك عرق القربة " فمعناه فيما زعم يونس : عطية القربة ، وهو ماؤها ، كأنه يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة في الأسفار ، وهو ماؤها . ويقال : عرق له بكذا ، كأنه تندى له وسمح . قال :


                                                          سأجعله مكان النون مني     وما أعطيته عرق الخلال



                                                          يقول : لم أعطه عطية مودة ، لكنه أخذته قسرا . والنون : السيف . وقال بعضهم : جشمت إليك حتى عرقت كعرق القربة ، وهو سيلان مائها . وقال قوم : عرق القربة أن يقول : تكلفت لك ما لا يبلغه أحد حتى تجشمت ما لا يكون ; لأن القربة لا تعرق ، يذهب إلى مثل قولهم : " حتى يشيب الغراب " . وكان الأصمعي يقول : عرق القربة كلمة تدل على الشدة ، وما أدري ما أصلها وقال ابن أبي طرفة : يقال لقيت من فلان عرق القربة ، أي الشدة . قال : وأنشد الأحمر :


                                                          ليست بمشتمة تعد وعفوها     عرق السقاء على القعود اللاغب



                                                          يمدح رجلا يسمع الكلمة الشديدة فلا يأخذ صاحبها بها .

                                                          [ ص: 285 ] ومن الباب : عرقت في الدلو ، وذلك إذا كان دون الملء ، كأن هذا لقلته شبه بالعرق . ويقال للمعطي اليسير : عرق . قال :


                                                          لا تملأ الدلو وعرق فيها     أما ترى حبار من يسقيها



                                                          ويقال : كأس معرقة ، إذا لم تكن مملوءة ، قد بقيت منها بقية . وخمر معرقة ، أي ممزوجة مزجا خفيفا ، شبه ذلك المزج اليسير بالعرق . وقال في المعرق القليل المزج :


                                                          أخذت برأسه فدفعت عنه     بمعرقة ملامة من يلوم



                                                          والأصل الثاني السنخ المتشعب . من ذلك العرق عرق الشجرة . وعروق كل شيء : أطناب تنشعب من أصوله . وتقول العرب : " استأصل الله عرقاتهم " زعموا أن التاء مفتوحة ، ثم اختلفوا في معناه ، فقال قوم : أرادوا واحدة وأخرجها مخرج سعلاة . وقال آخرون : بل هي تاء جماعة المؤنث لكنهم خففوه بالفتحة ويقال : أعرقت الشجرة ، إذا ضربت عروقها فامتدت في الأرض .

                                                          ومن هذا الباب : عرق الرجل يعرق عروقا ، إذا ذهب في الأرض . وهذا تشبيه ، شبه ذهابه بامتداد عروق الشجرة وذهابها في الأرض .

                                                          فأما قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، وليس لعرق ظالم حق [ ص: 286 ] فهو مثل . قال العلماء : العروق أربعة : عرقان ظاهران ، وعرقان باطنان . فالظاهران : الغرس والبناء ، والباطنان البئر والمعدن . ومعنى العرق الظالم أن يجيء الرجل إلى أرض قد أحياها رجل قبله فيغرس فيها غرسا أو يحدث شيئا يستوجب به الأرض .

                                                          والعرق : نبات أصفر . ومن أمثالهم : " فلان معرق [ له ] في الكرم " ، أي له فيه أصل وسنخ . وقد عرق فيه أعمامه وأخواله تعريقا ، وأعرقوا فيه أعراقا . وقد أعرق فيه أعراق العبيد ، إذا خالطه ذلك وتخلق بأخلاقهم . ويقال : تداركه أعراق خير وأعراق شر . قال الشاعر :


                                                          جرى طلقا حتى إذا قيل     سابق تداركه إعراق سوء فبلدا



                                                          والعريق من الخيل والناس : الذي له عرق في الكرم . وفلان يعارق

                                                          فلانا ، أي يفاخره ، ومعناه أن يقول : إننا أكرم عرقا . ويقال : " عرق في بنات صعدة " وهي الحمر الأهلية . وقول عكراش بن ذؤيب : " أتيته بإبل كأنها عروق الأرطى " أراد أنها حمر ، لأن عروق الأرطى حمر ، وحمر الإبل كرائمها . قال :


                                                          يثير ويبدي عن عروق كأنها     أعنة جراز تحط وتبشر



                                                          وصف ثورا يحفر كناسا تحت أرطى .

                                                          والأصل الثالث كشط اللحم عن العظم . قال الخليل : العراق : العظم الذي قد أخذ عنه اللحم . قال :


                                                          فألق لكلبك منه عراقا



                                                          [ ص: 287 ] فإذا كان العظم بلحمه فهو عرق . ويقال : العراق جمع عرق ، كما يقال ظئر وظؤار . ويقال في المثل : " هو ألأم من كلب على عرق " . قال ابن الأعرابي : جمع عرق عراق . وأنشد :


                                                          يبيت ضيفي في عراق ملس     وفي شمول عرضت للنحس



                                                          ملس ، يعني الودك والشحم . والنحس : الريح . يقال : عرقت العظم وأنا أعرقه ، واعترقته وتعرقته ، إذا أكلت ما عليه [ من ] اللحم . ويقال : أعطني عرقا أتعرقه ، أي عظما عليه اللحم . وفلان معترق ، أي مهزول ، كأن لحمه قد اعترق . قال :


                                                          غول تصدى لسبنتى معترق



                                                          وقال :


                                                          قد أشهد الغارة الشعواء تحملني     جرداء معروقة اللحيين سرحوب



                                                          يصف الفرس بقلة اللحم على وجهه ، وذلك أكرم له . قال الكسائي : فم معرق : قليل الريق . ووجه معروق : قليل اللحم .

                                                          والأصل الرابع : الامتداد والتتابع في أشياء يتبع بعضها بعضا . من ذلك [ ص: 288 ] العرقة ، والجمع عرقات ، وذلك كل شيء مضفور أو مصطف . وإذا اصطفت الطير في الهواء فهي عرقة ، وكذلك الخيل . قال طفيل :


                                                          كأنه بعد ما صدرن من عرق     سيد تمطر جنح الليل مبلول



                                                          والعرقة : السفيفة المنسوجة من الخوص قبل أن يجعل منها زبيل . وسمي الزبيل عرقا لذلك . ويقال عرقة أيضا . قال أبو كبير :


                                                          نغدو فنترك في المزاحف من ثوى     ونمر في العرقات من لم يقتل



                                                          يعني نأسرهم فنشدهم في العرقات ، وهي النسوع .

                                                          ويقال لآثار الخيل المصطفة عرقة . والعرقة : طرة تنسج ثم تخاط على شقة ، الشقة التي للبيت . وقال ابن الأعرابي : العرقة : جماعة من الخيل والإبل القائمة على سطر . فأما عراق المزادة والراوية فهو الخرز الذي في أسفلها ، والجمع عرق . وذلك عندنا مما ذكرناه من الامتداد والتتابع . قال ابن أحمر :


                                                          من ذي عراق نيط في جوزها     فهو لطيف طيه مضطمر



                                                          وقال آخر :


                                                          تضحك عن مثل عراق الشنه



                                                          ومن هذا الباب : العراق ، وهو عند الخليل شاطئ البحر . وسميت العراق [ ص: 289 ] عراقا لأنه على شاطئ دجلة والفرات عداء حتى يتصل بالبحر . والعراق في كلام العرب : شاطئ البحر على طوله .

                                                          ومن هذا الباب : العراق ، وهو ما أحاط بالظفر من اللحم . قال الدريدي : " سميت العراق لأنها استكفت أرض العرب " ، أي صارت كالكفاف لها . وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أن العراق مأخوذ من عروق الشجر ، وهي منابت الشجر . والعراقان : الكوفة والبصرة . وقال الأصمعي : العراق كل موضع ريف . قال جرير :


                                                          نهوى ثرى العرق إذ لم نلق بعدكم     كالعرق عرقا ولا السلان سلانا



                                                          ويقال : أعرق الرجل وأشأم ، أي أتى العراق والشام . قال الممزق :


                                                          فإن تنجدوا أتهم خلافا عليكم     وإن تعمنوا مستحقبي الشر أعرق



                                                          وأما عرقوة الدلو فالخشبة المعروضة عليها .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية