الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( عفر ) العين والفاء والراء أصل صحيح ، وله معان . فالأول لون من الألوان ، والثاني نبت ، والثالث شدة وقوة ، والرابع زمان ، والخامس شيء من خلق الحيوان .

                                                          فالأول : العفرة في الألوان ، وهو أن يضرب إلى غبرة في حمرة; ولذلك سمي التراب العفر . يقال : عفرت الشيء في التراب تعفيرا . واعتفر الشيء : سقط في العفر . قال الشاعر يصف ذوائب المرأة ، وأنها إذا أرسلتها سقطت على الأرض .

                                                          [ ص: 63 ]

                                                          تهلك المدراة في أكنافه وإذا ما أرسلته يعتفر



                                                          قال ابن دريد : العفر ظاهر تراب الأرض ، بفتح الفاء ، وتسكينها . قال : " والفتح اللغة العالية " .

                                                          ويقال للظبي أعفر للونه . قال :


                                                          يقول لي الأنباط إذ أنا ساقط به     لا بظبي في الصريمة أعفرا



                                                          قال : وإنما ينسب إلى اسم التراب . وكذلك الرمل الأعفر . قال : واليعفور الخشف ، سمي بذلك لكثرة لزوقه بالأرض . قال ابن دريد : " العفير لحم يجفف على الرمل في الشمس " .

                                                          ومن الباب : شربت سويقا عفيرا ، وذلك إذا لم يلت بزيت ولا سمن .

                                                          فأما الذي قاله ابن الأعرابي ، من قولهم : " وقعوا في عافور شر " مثل عاثور ، فممكن أن يكون من العفر ، وهو التراب ، وممكن أن يكون الفاء مبدلة من ثاء . وقد قال ابن الأعرابي : إن ذلك مشتق من عفره ، أي صرعه ومرغه في التراب . وأنشد :


                                                          جاءت بشر مجنب عافور



                                                          [ ص: 64 ] فأما ما رواه أبو عبيدة أن العفر : بذر الناس الحبوب ، فيقولون عفروا أي بذروا ، فيجوز أن يكون من هذا; لأن ذلك يلقى في التراب .

                                                          قال الأصمعي : وروي في حديث عن هلال بن أمية : " ما قربت امرأتي منذ عفرنا " .

                                                          ثم يحمل على هذا العفار ، وهو إبار النخل وتلقيحه . وقد قيل في عفار النخل غير هذا ، وقد ذكر في موضعه .

                                                          و قال ابن الأعرابي : العفر : الليالي البيض . ويقال لليلة ثلاث عشرة من الشهر عفراء ، وهي التي يقال لها ليلة السواء . ويقال إن العفر : الغنم البيض الجرد ، يقال قوم معفرون ومضيئون . قال : وهذيل معفرة ، وليس في العرب قبيلة معفرة غيرها .

                                                          ويقولون : ما على عفر الأرض مثله ، أي على وجهها .

                                                          ومن الباب أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، كان إذا سلم جافى عضديه عن جنبيه حتى يرى من خلفه عفرة إبطيه .

                                                          وأما الأصل الثاني فالعفار ، وهو شجر كثير النار تتخذ منه الزناد ، الواحدة عفارة . ومن أمثالهم : " اقدح بعفار أو مرخ ، واشدد إن شئت أو أرخ " .

                                                          قال الأعشى :


                                                          زنادك خير زناد الملو     ك خالط منهن مرخ عفارا



                                                          ولعل المرأة سميت " عفارة " بذلك . قال الأعشى :

                                                          [ ص: 65 ]

                                                          بانت لتحزننا عفاره     يا جارتا ما أنت جاره



                                                          وكذلك " عفيرة " . وقال بعضهم : العفر : جمع العفار من الشجر الذي ذكرناه . وأنشدوا :


                                                          قد كان في هاشم في بيت محضهم     وارى الزناد إذا ما أصلد العفر



                                                          ويقولون : " في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار " ، أي إنهما أخذا من النار ما أحسبهما .

                                                          والأصل الثالث : الشدة والقوة . قال الخليل : رجل عفر بين العفارة ، يوصف بالشيطنة ، ويقال : شيطان عفرية وعفريت ، وهم العفارية والعفاريت . ويقال إنه الكيس الظريف . وإن شئت فعفر وأعفار ، وهو المتمرد . وإنما أخذ من الشدة والبسالة . يقال للأسد عفر وعفرنى ، ويقال للخبيث عفرين ، وهم العفرون . وأسد عفرنى ولبؤة عفرناة ، أي شديدة . قال :


                                                          بذات لوث عفرناة إذا عثرت     فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا

                                                          ويسمون دويبة من الدواب " ليث عفرين " ، وهذا يقولون إن الأصل فيه الباب الأول; لأن مأوى هذه الدويبة التراب في السهل ، تدور دارة ثم تندس في جوفها ، فإذا هيج رمى بالتراب صعدا .

                                                          [ ص: 66 ] قال الخليل : ويسمون الرجل الكامل من أبناء الخمسين : ليث عفرين . يقولون : " ابن العشر لعاب بالقلين ، وابن العشرين باغي نسين ، وابن ثلاثين أسعى الساعين ، وابن الأربعين أبطش الباطشين ، وابن الخمسين ليث عفرين ، وابن ستين مؤنس الجليسين ، وابن السبعين أحكم الحاكمين ، وابن الثمانين أسرع الحاسبين; وابن التسعين واحد الأرذلين ، وابن المائة لا جاء ولا ساء " ، يقول : لا رجل ولا امرأة .

                                                          قال أبو عبيد : العفرية النفرية : الخبيث المنكر . وهو مثل العفر ، يقال رجل عفر ، وامرأة عفرة .

                                                          وفي الحديث : إن الله - تعالى - يبغض العفرية النفرية ، الذي لم يرزأ في ماله وجسمه . قال : وهو المصحح الذي لا يكاد يمرض .

                                                          وزعم بعضهم أن العفرفر مثل العفرنى من الأسود ، وهو الذي يصرع قرنه ويعفر . فإذا كان صحيحا فقد عاد هذا الباب إلى الباب الأول . وأنشد :


                                                          إذا مشى في الحلق المخصر     وبيضة واسعة ومغفر
                                                          يهوس هوس الأسد العفرفر



                                                          ويقال إن عفار : اسم رجل ، وإنه مشتق من هذا ، وكان ينسب إليه النصال . قال :

                                                          [ ص: 67 ]

                                                          نصل عفاري شديد عيره     لم يبق م النصال عاد غيره



                                                          ويقال للعفر عفارية أيضا . قال جرير :


                                                          قرنت الظالمين بمرمريس     يذل له العفارية المريد



                                                          والأصل الرابع من الزمان قولهم : لقيته عن عفر : أي بعد شهر . ويقال للرجل إذا كان له شرف قديم : ما شرفك عن عفر ، أي هو قديم غير حديث .

                                                          قال كثير :


                                                          ولم يك عن عفر تفرعك العلى     ولكن مواريث الجدود تؤولها



                                                          أي تصلحها وتربها وتسوسها .

                                                          ويقال في عفار النخل : إن النخل كان يترك بعد التلقيح أربعين يوما لا يسقى .

                                                          قالوا : ومن هذا الباب التعفير : وهو أن ترضع المطفل ولدها ساعة وتتركه ساعة . قال لبيد :


                                                          لمعفر قهد تنازع شلوه     غبر كواسب لا يمن طعامها



                                                          وحكي عن الفراء أن العفير من النساء هي التي لا تهدي لأحد شيئا . قال : وهو مأخوذ من التعفير الذي ذكرناه . وهذا الذي قاله الفراء بعيد من الذي [ ص: 68 ] شبه به ، ولعل العفير هي التي كانت هديتها تدوم وتتصل ، ثم صارت تهدى في الوقت . وهذا على القياس صحيح ، ومما يدل على هذا البيت الذي ذكر الفراء للكميت :


                                                          وإذا الخرد اغبررن من المح     ل وصارت مهداؤهن عفيرا



                                                          فالمهداء التي من شأنها الإهداء ، ثم عادت عفيرا لا تديم الهدية والإهداء .

                                                          وأما الخامس فيقولون : إن العفرية والعفراة واحدة ، وهي شعر وسط الرأس . وأنشد :


                                                          قد صعد الدهر إلى عفراته     فاحتصها بشفرتي مبراته



                                                          وهي لغة في العفرية ، كناصية وناصاة . وقد يقولون على التشبيه لعرف الديك : عفرية . قال :


                                                          كعفرية الغيور من الدجاج



                                                          أي من الديكة . قال أبو زيد : شعر القفا من الإنسان العفرية .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية