الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ( عن ) العين والنون أصلان ، أحدهما يدل على ظهور الشيء وإعراضه ، والآخر يدل على الحبس .

                                                          فالأول قول العرب : عن لنا كذا يعن عنونا ، إذا ظهر أمامك . قال :


                                                          فعن لنا سرب كأن نعاجه عذارى دوار في ملاء مذيل



                                                          قال ابن الأعرابي : العنان : ما عن لك من شيء . قال الخليل : عنان السماء : ما عن لك منها إذا نظرت إليها . فأما قول الشماخ :


                                                          طوى ظمأها في بيضة القيظ بعدما     جرت في عنان الشعريين الأماعز



                                                          فرواه قوم كذا بالفتح : " عنان " ، ورواه أبو عمرو : " في عنان الشعريين " ، يريد أول بارح الشعريين .

                                                          قال أبو عبيدة : وفي المثل : " معترض لعنن لم يعنه " .

                                                          وقال الخليل : العنون من الدواب وغيرها : المتقدم في السير . قال :


                                                          كأن الرحل شد به خنوف     من الجونات هادية عنون



                                                          [ ص: 20 ] قال الفراء : العنان : المعانة ، وهي المعارضة والمعاندة . وأنشد :


                                                          ستعلم إن دارت رحى الحرب بيننا     عنان الشمال من يكونن أضرعا



                                                          قال ابن الأعرابي : شارك فلان فلانا شركة عنان ، وهو أن يعن لبعض ما في يده فيشاركه فيه ، أي يعرض . وأنشد :


                                                          مابدل من أم عثمان سلفع     من السود ورهاء العنان عروب



                                                          قال : عروب ، أي فاسدة . من قولهم عربت معدته ، أي فسدت . قال أبو عبيدة : المعن من الخيل : الذي لا يرى شيئا إلا عارضه . قال : والمعن : الخطيب الذي يشتد نظره ويبتل ريقه ويبعد صوته ولا يعييه فن من الكلام . قال :


                                                          معن بخطبته مجهر



                                                          ومن الباب : عنوان الكتاب; لأنه أبرز ما فيه وأظهره . يقال عننت الكتاب أعنه عنا ، وعنونته ، وعننته أعننه تعنينا . وإذا أمرت قلت عننه .

                                                          قال ابن السكيت : يقال لقيته عين عنة ، أي فجأة ، كأنه عرض لي من غير طلب . قال طفيل :


                                                          إذا انصرفت من عنة بعد عنة



                                                          [ ص: 21 ] ويقال إن الجبل الذاهب في السماء يقال [ له ] عان ، وجمعها عوان .

                                                          وأما الأصل الآخر ، وهو الحبس ، فالعنة ، وهي الحظيرة ، والجمع عنن . قال أبو زياد : العنة : بناء تبنيه من حجارة ، والجمع عنن . قال الأعشى :


                                                          ترى اللحم من ذابل قد ذوى     ورطب يرفع فوق العنن



                                                          يقال : عننت البعير : حبسته في العنة . وربما استثقلوا اجتماع النونات فقلبوا الآخرة ياء ، كما يقولون :


                                                          تقضي البازي إذا البازي كسر



                                                          فيقولون عنيت . قال :


                                                          قطعت الدهر كالسدم المعنى     تهدر في دمشق ولا تريم



                                                          يراد به المعنن . قال بعضهم : الفحل ليس بالرضا عندهم يعرض على ثيله عود ، فإذا تنوخ الناقة ليطرقها منعه العود . وذلك العود النجاف . فإذا أرادوا ذلك نحوه وجاؤوا بفحل أكرم منه فأضربوه إياها ، فسموا الأول المعنى . وأنشد :


                                                          تعنيت للموت الذي هو نازل



                                                          يريد : حبست نفسي عن الشهوات كما صنع بالمعنى . وفي المثل : " هو كالمهدر في العنة " . قال : والرواية المشهورة : تعننت ، وهو من العنين الذي لا يأتي النساء .

                                                          [ ص: 22 ] ومن الباب : عنان الفرس ، لأنه يحتبس ، وجمعه أعنة وعنن . الكسائي : أعننت الفرس : جعلت له عنانا . وعننته : حبسته بعنانه . فأما المرأة المعننة فذلك على طريقة التشبيه ، وإنما هي اللطيفة البطن ، المهفهفة ، التي جدلت جدل العنان . وأنشد :


                                                          وفي الحي بيضات دارية     دهاس معننة المرتدى



                                                          قال أبو حاتم : عنان المتن حبلاه . وهذا أيضا على طريقة التشبيه . قال رؤبة :


                                                          إلى عناني ضامر لطيف



                                                          والأصل في العنان ما ذكرناه في الحبس .

                                                          وللعرب في العنان أمثال ، يقولون : " ذل لي عنانه " ، إذا انقاد . و " هو شديد العنان " ، إذا كان لا ينقاد . و " أرخ من عنانه " أي رفه عنه . و " ملأت عنان الفرس " ، أي بلغت مجهوده في الحضر . قال :


                                                          حرف بعيد من الحادي إذا ملأت     شمس النهار عنان الأبرق الصخب



                                                          يريد إذا بلغت الشمس مجهود الجندب ، وهو الأبرق . ويقولون : " هما يجريان في عنان واحد " إذا كانا مستويين في عمل أو فضل . و " جرى فلان عنانا أو عنانين " ، أي شوطا أو شوطين . قال الطرماح :

                                                          [ ص: 23 ]

                                                          سيعلم كلهم أني مسن     إذا رفعوا عنانا عن عنان



                                                          قال ابن السكيت : " فلان طرب العنان " يراد به الخفة والرشاقة . و " فلان طويل العنان " ، أي لا يذاد عما يريد ، لشرفه أو لماله . قال الحطيئة :


                                                          مجد تليد وعنان طويل



                                                          وقال بعضهم : ثنيت على الفرس عنانه ، أي ألجمته . واثن على فرسك عنانه ، أي ألجمه . قال ابن مقبل :


                                                          وحاوطني حتى ثنيت عنانه     على مدبر العلباء ريان كاهله



                                                          وأما قول الشاعر :


                                                          ستعلم إن دارت رحى الحرب بيننا     عنان الشمال من يكونن أضرعا



                                                          فإن أبا عبيدة قال : أراد بقوله : عنان الشمال ، يعني السير الذي يعلق به في شمال الشاة ، ولقبه به . وقال غيره : الدابة لا تعطف إلا من شمالها . فالمعنى : إن دارت مدارها على جهتها . وقال بعضهم : عنان الشمال أمر مشؤوم كما يقال لها :


                                                          زجرت لها طير الشمال



                                                          ويقولون لمن أنجح في حاجته : جاء ثانيا عنانه .

                                                          [ ص: 24 ]

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية