الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3689 3690 3691 3692 3693 ص: فإن قال قائل : فقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر بإفراد الحج وذكر في ذلك ما حدثنا فهد ، قال : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن عبد الأعلى ، قال : سمعت سويدا يقول : سمعت عمر - رضي الله عنه - يقول : " أفردوا بالحج" . ) .

                                                قيل له : ليس ذلك عندنا على كراهته لما سوى الإفراد من التمتع والقران ولكنه لإرادته معنى سوى ذلك قد بينه عبد الله بن عمر حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا بشر بن عمر ، قال : ثنا مالك .

                                                وحدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، أن مالكا أخبره عن نافع ، عن ابن عمر ، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : "افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج" .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : قلت لسالم : "لم نهى عمر عن المتعة ، وقد فعل ذلك رسول الله - عليه السلام - وفعلها الناس معه ؟ فقال : أخبرني عبد الله بن عمر أن عمر - رضي الله عنه - [ ص: 202 ] قال : إن أتم العمرة أن تفردوها من أشهر الحج ، ، والحج أشهر معلومات فأخلصوا فيهن الحج ، واعتمروا فيما سواهن من الشهور" .

                                                قال : فأراد عمر بذلك تمام العمرة ، لقول الله - عز وجل - وأتموا الحج والعمرة لله وذلك أن العمرة التي يتمتع فيها بالحج لا تتم إلا بأن يهدي صاحبها هديا أو يصوم إن لم يجد هديا ومن العمرة في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام ، فأراد عمر - رضي الله عنه - أن يزار البيت في كل عام مرتين وكره أن يتمتع الناس بالعمرة إلى الحج ، فيلزم الناس ذلك فلا يأتموا البيت إلا مرة واحدة في السنة فأخبر ابن عمر عن عمر في هذا الحديث أنه إنما أمر بإفراد العمرة من الحج ، لئلا يلزم الناس ذلك فلا يأتون البيت إلا مرة واحدة في السنة لا لكراهية التمتع ؛ لأنه ليس من السنة ، فأما قوله : "إنه أتم لعمرة أحدكم وحجته أن يفرد كل واحدة من صاحبتها" فإن ما روينا عن ابن عباس عنه يدل على خلاف ذلك .

                                                التالي السابق


                                                ش: السؤال ظاهر وتقدير الجواب أن يقال : لا نسلم أن قول عمر "أفردوا بالحج" يدل على أنه يكره التمتع والقران لعدم استلزام كلامه ذلك وإنما أراد بهذا الكلام معنى بينه ابنه عبد الله بن عمر فيما روى عن عمر أنه قال : "افصلوا بين حجكم وعمرتكم" فإنه أراد بذلك : أن نفرد أشهر الحج للإحرام بالحج ونحرم للعمرة في سائر الشهور ؛ لتقع زيارة البيت مرتين كل عام .

                                                وقال أبو عمر : هذا الكلام من عمر - رضي الله عنه - إفراط في استحسان الإفراد بالحج ولا أعلم أحدا من أهل العلم كره العمرة في أشهر الحج غير عمر - رضي الله عنه - ، وقد ثبت عن النبي - عليه السلام - لم تكن عمرته إلا في شوال وقيل : في ذي القعدة وهما جميعا من أشهر الحج ، وقال أيضا : ولا خلاف بين العلماء أن للمحرم بالعمرة إدخال الحج عليها ما لم يبتدئ بالطواف بالبيت لعمرته هذا إذا كان ذلك في أشهر الحج على أن جماعة منهم وهم أكثر أهل الحجاز يستحبون أنه لا يدخل المحرم الحج على العمرة حتى يفرغ [ ص: 203 ] من عملها ويفصل بينه وبين العمرة ولهذا استحبوا العمرة في غير أشهر الحج ، ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - : "افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم [لحج أحدكم] وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج" .

                                                قوله : "فأما قوله إن أتم لعمرة . . " إلى آخره . أشار بهذا إلى أن قول عمر هذا يعارضه ما رواه عنه ابن عباس من قوله : "سمعت رسول الله - عليه السلام - وهو بالعقيق يقول : أتاني الليلة آت من ربي ، فقال صل في هذا الوادي المبارك ، وقل عمرة في حجة" فإن هذا الحديث يخالف ما رواه عنه عبد الله بن عمر وهو ظاهر .

                                                ثم إنه أخرج حديث السائل : عن فهد بن سليمان ، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الكوفي ، روى له الجماعة ، عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي وثقه أحمد وروى له مسلم والأربعة ، عن سويد بن غفلة الجعفي الكوفي أدرك الجاهلية وروي عنه أنه قال : أنا لدة رسول الله - عليه السلام - ولدت عام الفيل ، قدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله - عليه السلام - ، روى له الجماعة .

                                                وحديث عبد الله بن عمر أخرجه من [ثلاث] طرق صحاح :

                                                الأول : عن إبراهيم بن مرزوق عن بشر بن عمر الزهراني البصري ، عن مالك ، عن نافع . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه مالك في "موطأه" .

                                                الثاني : عن موسى بن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن وهب ، عن مالك .

                                                الثالث : عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عبد الله بن صالح شيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل - بضم العين - بن خالد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر .

                                                [ ص: 204 ] وأخرجه البيهقي : بأتم منه من حديث عقيل ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، عن رسول الله - عليه السلام - : "في تمتعه بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه مثل الذي أخبرني سالم عن أبيه عن رسول الله ، فقلت لسالم : فلم تنه عن التمتع وقد فعل ذلك رسول الله - عليه السلام - والناس معه ؟ قال أخبرني ابن عمر - رضي الله عنه – قال: إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة ، فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور" .

                                                قوله : "إن أتم العمرة أن تفردوها في أشهر الحج" أراد أن إتمام العمرة أن يؤتى بها وحدها في غير أشهر الحج ، وذلك لأنها في غير أشهر الحج تتم بغير هدي ولا صيام بخلاف ما إذا كانت في أشهر الحج ، فإن الرجل إذا أراد أن يتمتع فيها بالحج لا يتم إلا بأن يهدي هديا فإن لم يجد هديا يصوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله .

                                                قوله : "والحج أشهر معلومات" فيه حذف ، أي وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، ويقال : تقديره : الحج في أشهر معلومات ، وقال الفراء في كتاب معاني القرآن ، في قوله تعالى : الحج أشهر معلومات معناه وقت الحج هذه الأشهر فهي وإن كانت تصلح كلمة "في" فيها فلا يقال إلا بالرفع ، وكذلك كلام العرب ، يقولون : البرد شهران والحر شهران لا ينصبون لأنه مقدار الحج ولو كانت الأشهر والشهر معرفة على هذا المعنى لصلح فيه النصب ووجه الكلام الرفع ، وقال الزمخشري والأشهر المعلومات شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة ، وعند أبي حنيفة وعند الشافعي تسع ذي الحجة وليلة يوم النحر ، وعند مالك ذو الحجة كله .

                                                [ ص: 205 ] فإن قلت : ما فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر ؟ قلت : فائدته أن شيئا من أفعال الحج لا يصلح إلا فيها والإحرام بالحج لا ينعقد عند الشافعي في غيرها وينعقد عند أبي حنيفة إلا أنه يكره فإن قلت : كيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرا ؟ قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما فلا سؤال فيه إذن وإنما يكون موضع السؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات وقيل : نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا أو على عهد فلان ولعل العهد عشرون سنة أو أكثر وإنما رآه في ساعة فيها .

                                                قوله : "فأخلصوا فيهن الحج" أي في أشهر الحج وأراد بإخلاص الحج فيها : ألا يخلطه بالعمرة والدليل عليه قوله : "اعتمروا فيما سواهن من الشهور" .




                                                الخدمات العلمية