الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3725 3726 3727 3728 3729 3730 3731 ص: فقال قائل ممن كره القران والتمتع لمن استحبهما : اعتللتم علينا بقول الله - عز وجل - : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي في إباحة المتعة وليس ذلك كذلك ، وإنما تأويل هذه الآية : ما روي عن عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - [فذكر ما] حدثنا محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق ، قالا : ثنا الخصيب بن ناصح ، قال : ثنا وهيب بن خالد ، عن إسحاق بن سويد ، قال : "سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول : يا أيها الناس ألا إنه والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ولكن التمتع بالعمرة إلى الحج : أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو مرض أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج ، ، فيأتي البيت فيطوف به سبعا ويسعى بين الصفا والمروة ، ويتمتع بحله إلى العام المقبل فيحج ويهدر" .

                                                حدثنا ابن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، قال : ثنا إسحاق بن سويد . ... فذكره نحوه . قالوا : فهذا تأويل هذه الآية .

                                                [ ص: 244 ] قيل لهم : لئن وجب بأن يكون تأويلها كذلك لقول ابن الزبير ، فإن تأويلها أحرى ألا يكون كذلك كما رويناه عن رسول الله - عليه السلام - وعن أصحابه من بعده مثل عمر ، وعلي ومن ذكرنا معهم فيما تقدم من هذا الباب .

                                                وقد حدثنا يونس ، قال : ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم - أو مالك بن الحارث - عن أبي نصر قال : "أهللت بالحج فأدركت عليا - رضي الله عنه - فقلت : إني أهللت بالحج أفأستطيع أن أضم إليه عمرة ؟ فقال : لا ، لو كنت أهللت بالعمرة ثم أردت أن تضيف إليها الحج فعلت" .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن علي بن حسين ، عن مروان بن الحكم ، قال : "كنا مع عثمان بن عفان ، - رضي الله عنه - فسمعنا رجلا يهتف بالحج والعمرة فقال عثمان : من هذا ؟ قالوا : علي ، فسكت" .

                                                حدثنا سليمان بن شعيب ، قال : ثنا الخصيب ، قال : ثنا همام ، عن قتادة ، عن جري بن كليب ، وعبد الله بن شقيق : " أن عثمان - رضي الله عنه - خطب ، فنهى عن المتعة ، فقام علي - رضي الله عنه - فلبى بهما ، فأنكر عثمان ذلك ، فقال علي: إن أفضلنا في هذا الأمر أشدنا اتباعا له" .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا أبو بشر ، عن سليمان اليشكري ، عن جابر بن عبد الله ، قال : " لو أهللت بالحج والعمرة طفت لهما طوافا واحدا ولكنت مهديا" . ) .

                                                قال أبو جعفر : - رحمه الله - : فهذا من ذكرنا من أصحاب رسول الله - عليه السلام - قد صرف تأويل قول الله - عز وجل - : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي إلى خلاف ما صرفه إليه عبد الله بن الزبير ، وهو أصح التأويلين عندنا والله أعلم ، لأن في الآية ما يدل على فساد تأويل ابن الزبير ؛ لأن الله - عز وجل - قال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج والصيام في الحج لا يكون بعد فوت الحج ، ولكنه قبل فوته ثم قال : وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ ص: 245 ] فكأن الله - عز وجل - إنما جعل المتعة ، وأوجب فيها ما أوجب على من فعلها إذا لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام وقد أجمعت الأمة أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام أو غير حاضري المسجد الحرام ففاته الحج ، أن حكمه في ذلك وحكم غيره سواء وأن حاله بحضور أهله المسجد الحرام لا يخالف حاله ببعدهم عن المسجد الحرام فثبت بذلك أن المتعة التي ذكرها الله - عز وجل - في هذه الآية هي التي يفترق فيها من كان أهله بحضرة المسجد الحرام ومن كان أهله بغير حضرة المسجد الحرام ، وذلك في التمتع بالعمرة إلى الحج التي كرهها مخالفنا .

                                                التالي السابق


                                                ش: لما كان قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي من جملة الحجج التي [احتج] بها من استحب القران والتمتع على من كرههما واستحب الإفراد ومن جملة ما اعتلوا به عليهم في إباحة المتعة قامت طائفة منهم واعترضوا ، فقالوا : استدلالكم بالآية المذكورة واحتجاجكم بها علينا فيما تدعون به غير صحيح ؛ لأن تأويل الآية غير ما ذهبتم إليه وإنما تأويله ما بينه عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - في خطبته ، وهو الذي أخرجه في طريقين :

                                                الأول : عن محمد بن الحجاج ونصر بن مرزوق ، كلاهما عن الخصيب - بفتح الخاء المعجمة - بن ناصح الحارثي عن وهيب بن خالد البصري روى له الجماعة عن إسحاق بن سويد بن هبيرة البصري ثقة روى له الشيخان عن عبد الله بن الزبير .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا معتمر بن سليمان ، عن إسحاق بن سويد ، قال : سمعت ابن الزبير ، قال : "إنما التمتع بالعمرة إلى الحج : أن يهل الرجل بالحج فيحصره إما مرض أو عدو أو أمر يحبسه" .

                                                [ ص: 246 ] الثاني : عن محمد بن خزيمة بن راشد ، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن إسحاق بن سويد . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه أبو عمر في "التمهيد" نحوه .

                                                قوله : "قالوا" أي الذين كرهوا التمتع والقران وقد ذكرنا أن التمتع على أربعة أنواع .

                                                أحدها : التمتع المعروف وهو الذي قاله ابن عمر : أن يعتمر في أشهر الحج قبل الحج ثم يقيم بمكة حتى يدركه الحج ويحج من عامه ، ولا خلاف أن هذا التمتع هو المراد بقوله تعالى: فمن تمتع بالعمرة إلى الحج

                                                والثاني : القران عند جماعة من العلماء ؛ لأن القارن متمتع بسقوط سفره الثاني ، فالقران والتمتع يتفقان في هذا المعنى ، ويتفقان عند أكثر العلماء في الهدي والصيام لمن لم يجد .

                                                والثالث : فسخ الحج في العمرة ، وجمهور العلماء يكرهونه .

                                                والرابع : ما قاله ابن الزبير .

                                                قوله : "قيل لهم" إلى آخره جواب عما قاله أولئك القوم ، بيانه أن يقال : إن عبد الله بن الزبير أول تأويلا في الآية يخالفه ما أوله غيره من الصحابة ، منهم : علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأخرج عنه في ذلك من ثلاث طرق :

                                                الأول : عن يونس بن عبد الأعلى ، عن سفيان بن عيينة ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم النخعي - أو مالك بن الحارث السلمي الرقي - وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ، عن أبي نصر بنون مفتوحة وصاد مهملة ساكنة ، وقال ابن ماكولا بضاد معجمة وهو أبو نضر السلمي ، قال الدارقطني والبيهقي أبو نصر هذا مجهول .

                                                [ ص: 247 ] قوله : "أفأستطيع" الهمزة فيه للاستفهام .

                                                قوله : "لو كنت أهللت بالعمرة" إلى آخره وهذا يدل على أن عليا - رضي الله عنه - ، لا يرى إضافة العمرة إلى الحج ، وهذا الباب فيه اختلاف بين العلماء ، فقال أبو عمر : العلماء مجمعون على أنه إذا دخل الحج على العمرة في أشهر الحج قبل الطواف بالبيت أنه جائز له ذلك ويكون قارنا بذلك ، ويلزمه ما يلزم الذي أنشأ العمرة والحج معا .

                                                وقالت طائفة من أصحاب مالك : له أن يدخل الحج على العمرة وإن كان قد طاف ما لم يركع ركعتي الطواف ، وقال بعضهم : له ذلك بعد الطواف ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة ، وهذا كله شذوذ عند أهل العلم ، وقال أشهب : متى طاف لعمرته ولو شوطا واحدا لم يكن له إدخال الحج عليها ، وهذا هو الصواب إن شاء الله فإن فعل وأدخل الحج على العمرة بعد ذلك فقد اختلفوا فيما يلزم في ذلك ، فقال مالك : من أدخل الحج على العمرة بعد أن يفتتح الطواف لزمه ذلك وصار قارنا ، وروي مثل ذلك عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف .

                                                وقال الشافعي لا يكون قارنا ، وذكر أن ذلك قول عطاء وبه قال أبو ثور وغيره .

                                                واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال مالك : يضاف الحج إلى العمرة ولا تضاف العمرة إلى الحج ، فإن أهل أحد بالحج ثم أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء ، ولا يلزمه شيء ، وهو أحد قولي الشافعي وهو المشهور عنه بمصر .

                                                وقال أبو حنيفة وأصحابه : من أهل بحجة ثم أضاف إلى الحج عمرة ، فهو قارن ، ويكون عليه ما على القارن ، قالوا : ولو طاف لحجته شوطا واحدا ثم أهل بعمرة لم يكن قارنا ولم يلزمه ، لأنه قد عمل في الحج .

                                                وقال الأوزاعي : لا بأس أن يضيف العمرة إلى الحج بعد ما يهل بالحج .

                                                وقال أبو ثور : إذا أحرم بحجة فليس له أن يضيف إليها عمرة ولا يدخل إحراما على إحرام كما لا يدخل صلاة على صلاة .

                                                [ ص: 248 ] قال أبو عمر : هذا قول شاذ ، وفعل ابن عمر في خبر إدخاله الحج على العمرة ، ومعه على ذلك جمهور العلماء خير من قول أبي ثور الذي لا أصل له إلا القياس الفاسد في هذا الموضع .

                                                وفي هذا الباب : اختلافهم فيمن أهل بحجتين أو بعمرتين أو أدخل حجة على حجة أو عمرة على عمرة ، فقال مالك : الإحرام بحجتين أو عمرتين لا يجوز ولا يلزمه إلا واحدة ، وبذلك قال الشافعي ومحمد بن الحسن .

                                                قال الشافعي : وكذلك لو أحرم بحج ثم أدخل عليه حجا آخر قبل أن يكمل فهو مهل بحج واحد ولا شيء عليه في الثاني من فدية ولا قضاء ولا غيره ، وقال أبو حنيفة : تلزمه الحجتان ويصير رافضا لإحداهما حين يتوجه إلى مكة ، وقال أبو يوسف : تلزمه الحجتان ويصير رافضا ساعتئذ .

                                                وذكر الجوزجاني عن محمد قال : قال أبو حنيفة وأبو يوسف : من أهل بحجتين معا أو أكثر فإن توجه إلى مكة وأخذ في العمل ، فهو رافض لها كلها إلا واحدة ، وعليه لكل حجة رفضها دم وحجة وعمرة .

                                                الطريق الثاني : عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال ، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري ، عن يزيد بن أبي زياد القرشي الهاشمي الكوفي فيه مقال فعن يحيى : لا يحتج بحديثه ، وعنه : ليس بالقوي ، وعنه : ضعيف الحديث ، وقال العجلي : جائز الحديث ، وقال أبو زرعة : لين يكتب حديثه ولا يحتج به ، روى له مسلم مقرونا بغيره ، واحتج به الأربعة .

                                                عن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين روى له الجماعة ، عن مروان بن الحكم . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا محمد بن بشار ، نا غندر ، نا شعبة ، عن الحكم ، عن علي بن الحسين ، عن مروان بن الحكم : "شهدت عثمان وعليا - رضي الله عنهما - وعثمان ينهى [ ص: 249 ] عن المتعة وأن يجمع بينهما ، فلما رأى علي ذلك ؛ أهل بهما : لبيك بعمرة وحجة ، قال : ما كنت لأدع سنة رسول الله - عليه السلام - لقول أحد" .

                                                قوله : "يهتف بالحج والعمرة" أي يرفع صوته ملبيا بهما .

                                                الثالث : عن سليمان بن شعيب الكيساني ، عن الخصيب بن ناصح الحارثي ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن جري بن كليب - بالتصغير فيهما - السدوسي البصري ، قال أبو حاتم : شيخ لا يحتج بحديثه ، روى له الأربعة حديثا واحدا ، عن علي في الأضحية ، عن شقيق بن عبد الله بن شقيق العقيلي البصري روى له الجماعة ، البخاري في الأدب ، كلاهما عن عثمان - رضي الله عنه - .

                                                ومنهم : جابر بن عبد الله ، أخرج حديثه عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال ، عن هشيم بن بشير ، عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري ، عن سليمان بن قيس اليشكري البصري ، وهذا إسناد صحيح .

                                                قوله : "وهو أصح التأويلين عندنا" أي الذي أوله من ذكره من الصحابة هو أصح التأويلين ، وقد بين وجه ذلك بقوله : "لأنه في الآية ما يدل على فساد . . . " إلى آخره وهو ظاهر .

                                                ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في حاضري المسجد الحرام من هم ؟ فذهب طاوس ومجاهد إلى أنهم أهل الحرم ، وبه قال داود ، وقالت طائفة : أهل مكة بعينها ، روي ذلك عن نافع وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، وهو قول مالك ، قال : هم أهل مكة وذي طوى وشبهها ، وأما أهل منى وعرفة والمناهل مثل قديد ومر الظهران وعسفان فعليهم دم ، وذهب أبو حنيفة إلى أنهم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة ، وهو قول عطاء ومكحول ، وهو قول الشافعي بالعراق ، وقال الشافعي أيضا وأحمد : من كان من الحرم على مسافة لا تقصر في مثلها الصلاة فهو من حاضري المسجد الحرام ، واختلفوا أيضا في التمتع لأهل مكة ، فقال الشافعي ومالك وأحمد وداود : إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران ، وإن تمتع لم يلزمه دم ، وقال أبو حنيفة : يكره له التمتع [ ص: 250 ] والقران ، وإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرا ، وهما في حق الآفاقي مستحبان ويلزمه الدم شكرا ، وقال أبو عمر والحسن وطاوس : ليس لأهل مكة متعة ، ذكره ابن المنذر ، والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية