الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3535 3536 3537 3538 3539 3540 ص: وخالفهم في ذلك آخرون ، فقالوا : قد يجوز أن يكون النبي - عليه السلام - أحرم منها لا لأنه قصد أن يكون إحرامه منها خاصة لفضل الإحرام منها على الإحرام مما سواها ، وقد رأيناه فعل أشياء في حجته في مواضع لا لفضل قصده في تلك المواضع مما تفضل به غيرها من سائر المواضع ، من ذلك نزوله بالمحصب من منى ، فلم يكن ذلك لأنه سنة ؛ ولكن لمعنى آخر قد اختلف الناس فيه ، ما هو ؟

                                                فروي عن عائشة - رضي الله عنها - في ذلك ما حدثنا يونس ، قال : ثنا أنس بن عياض ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت له : " إنما كان منزلا نزله رسول الله - عليه السلام - لأنه كان أسمح للخروج" ولم يكن عروة يحصب ولا أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنه - .

                                                وروي عن أبي رافع أنه قال : " إنما أمرني رسول الله - عليه السلام - أن أضرب له الخيمة ، ولم يأمرني بمكان بعينه ، فضربتها بالمحصب" . .

                                                حدثنا بذلك ابن أبي عمران ، قال : ثنا إسحاق بن إسماعيل ، قال : ثنا سفيان ، عن صالح بن كيسان ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع .

                                                وروي عن ابن عباس ما حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا خالد بن عبد الرحمن قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن شعبة - يعني مولى ابن عباس - أن ابن عباس قال : "إنما كان المحصب ؛ لأن العرب كانت تخاف بعضها بعضا ، فيرتادون فيخرجون ، فجرى الناس عليها" .

                                                حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا خالد ، قال : ثنا ابن أبي ذئب ، عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس . . مثله ، غير أنه قال : "كانت تميم وربيعة يخاف بعضها بعضا" .

                                                [ ص: 63 ] حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا أسد ، قال : ثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " ليس المحصب بشيء ؛ إنما هو منزل نزله رسول الله - عليه . السلام - .

                                                فلما كان رسول الله . - عليه السلام - قد حصب ولم يكن ذلك لأنه سنة ، فكذلك يجوز أن يكون أحرم حين صار على البيداء لا لأن ذلك سنة .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون ، وأراد بهم : جماهير العلماء من التابعين ومن بعدهم ، منهم الأئمة الأربعة وكثر أصحابهم ، فإنهم قالوا : سنة الإحرام أن يكون من ذي الحليفة .

                                                وفي "شرح الموطأ" : استحب مالك وأكثر الفقهاء أن يهل الراكب إذا استوت به راحلته قائمة .

                                                واستحب أبو حنيفة أن يكون إهلاله عقيب الصلاة إذا سلم منها .

                                                وقال الشافعي : يهل إذا أخذت ناقته في المشي ومن كان يركب راحلته قائمة كما يفعله [كثير] من الحاج اليوم ، فيهل على مذهب مالك إذا استوى عليها راكبا .

                                                وقال عياض : جاء في رواية : "أهل رسول الله - عليه السلام - إذا استوت الناقة" وفي رواية أخرى : "حتى استوت به راحلته" وفي أخرى : "حتى تنبعث به ناقته" وكل ذلك متفق لأن قيامها به انبعاثها ، ولا تستوي به حتى تنبعث به ، ولا يفهم منه أخذها في المشي .

                                                وقال : قال مالك وأكثر أصحابه : يستحب أن يهل إذا استوت به إن كان راكبا ويتوجه بأثر ذلك ، وإن كان راحلا فحين يأخذ في المشي .

                                                وقال الشافعي : إن كان راكبا فكذلك .

                                                وقال أبو حنيفة : إذا سلم من الصلاة .

                                                قلت : الانبعاث : أخذها في القيام ، والاستواء : كمال القيام .

                                                [ ص: 64 ] قوله : "فقالوا قد يجوز . . " إلى آخره جواب عما قاله أهل المقالة الأولى من استحباب الإحرام من البيداء لكون النبي - عليه السلام - أحرم منها .

                                                بيانه أن يقال : لا نسلم أن إهلال النبي - عليه السلام - من البيداء يدل على استحباب الإحرام منها ، وأنه فضيلة اختارها رسول الله - عليه السلام - ؛ لأنه يجوز أن يكون قد كان فعل ذلك لا لقصد أنه للإحرام منها فضيلة على الإحرام من غيرها ، وقد رأيناه . أي النبي - عليه السلام - فعل أشياء في حجه في مواضع لا لأجل فضل قصده على أنه لا يوجد في غيرها من المواضع ، فمن ذلك نزوله بالمحصب ، فإن ذلك لم يكن لأنه سنة وإنما كان لأجل معنى اختلفوا فيه ، ما هو ؟

                                                فذكر فيه أربعة معان :

                                                الأول : ما أشار إليه بقوله : "فروي عن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت : إنما كان - أي المحصب - منزلا نزله رسول الله - عليه السلام - لأنه كان أسمح للخروج" أي أسهل وأقرب لخروجه - عليه السلام - إلى المدينة ، وليجتمع إليه من معه مدة مقامه فيه بقية يومه ؛ ليرحلوا برحيله .

                                                أخرجه بإسناد صحيح عن يونس بن عبد الأعلى المصري ، عن أنس بن عياض بن ضمرة المدني روى له الجماعة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنهم - .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا حفص بن غياث ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : "إنما نزل رسول الله - عليه السلام - الأبطح لأنه أسمح لخروجه ، وأنه ليس بسنة" .

                                                وأخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة .

                                                [ ص: 65 ] وأخرجه البخاري وأبو داود أيضا .

                                                ولفظ أبي داود : "ليكون أسمح لخروجه وليس بسنة ، فمن شاء نزله ، ومن شاء لم ينزله" .

                                                قوله : "ولم يكن عروة يحصب" أي لم يكن ينزل بالمحصب لأنه ليس بسنة .

                                                وقال ابن أبي شيبة : ثنا عبدة ، عن هشام بن عروة : "أن أباه كان لا يحصب" .

                                                قوله : "ولا أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - " أي ولم تكن أسماء تحصب أيضا .

                                                قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" : ثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام بن عروة ، عن فاطمة : "أن أسماء كانت لا تحصب" .

                                                قلت: وهو مذهب عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن جبير .

                                                قال ابن أبي شيبة : ثنا إسماعيل بن عياش ، عن ليث : "أن عطاء وطاوسا ومجاهدا وسعيد بن جبير كانوا لا يحصبون" .

                                                ثنا وكيع ، عن عمر بن ذر ، عن مجاهد : "أنه كان يكره التحصيب" .

                                                ثنا وكيع عن سفيان [عن الليث ] عن طاوس قال : "إنما الحصبة في السماء" انتهى .

                                                [ ص: 66 ] وقال ابن الأثير : المحصب : هو الشعب الذي مخرجه إلى الأبطح بين مكة ومنى ، سمي بذلك للحصى الذي فيه ، وكذلك سمي موضع الجمار بمنى محصبا ، وهو في اللغة من التحصيب ، وهو أن يلقي في الأرض الحصباء وهو الحصى الصغار .

                                                الثاني : ما أشار إليه بقوله : "وروي عن أبي رافع " وهو مولى النبي - عليه السلام - ، يقال : اسمه إبراهيم ، وقيل : أسلم ، وقيل : ثابت ، وقيل : هرمز ، فإنه قال : "أمرني رسول الله - عليه السلام - أن أضرب له الخيمة ولم يأمرني بمكان بعينه ، فضربتها بالمحصب " .

                                                فهذا يدل على أنه - عليه السلام - ما قصد إلا النزول في أي أرض كانت ، ولم يقصد به النزول في موضع معين لفضله على النزول في غيره ، واتفق أن أبا رافع ضرب خيمة النبي - عليه السلام - بالمحصب .

                                                وأخرجه بإسناد صحيح ، عن أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي ، عن إسحاق بن إبراهيم الطالقاني شيخ أبي داود ، عن صالح بن كيسان ، عن سليمان بن يسار ، عنه .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا قتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعا ، عن ابن عيينة - قال زهير : نا سفيان بن عيينة - عن صالح بن كيسان ، عن سليمان بن يسار ، قال : قال أبو رافع : "لم يأمرني رسول الله - عليه السلام - أن أنزل الأبطح حين خرج من منى ، ولكني جئت فضربت قبته ، فجاء فنزل" .

                                                الثالث : ما أشار إليه بقوله : "وروي عن ابن عباس ما حدثنا ربيع المؤذن . . " إلى آخره .

                                                فإنه قال : "إنما كانت المحصب لأن العرب كانت تخاف بعضها بعضا فيرتادون" من الارتياد وهو طلب المكان للنزول فيه ، يقال : راد ، وارتاد ، واستراد .

                                                "فيخرجون جميعا فجرى الناس عليها" أي على هذه الفعلة .

                                                [ ص: 67 ] فأخبر ابن عباس أن النزول في المحصب لم يكن لكونه سنة وإنما كان للعلة التي ذكرها .

                                                وأخرجه من طريقين :

                                                الأول : عن ربيع بن سليمان المؤذن ، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذئب المدني روى له الجماعة ، عن شعبة بن دينار مولى ابن عباس ، فيه مقال .

                                                الثاني : وهو صحيح ، عن ربيع أيضا ، عن خالد بن عبد الرحمن أيضا ، عن محمد بن أبي ذئب أيضا .

                                                عن صالح بن نبهان مولى التوأمة - عن يحيى : ثقة حجة . وعن أحمد : هو صالح الحديث ما أعلم به بأسا .

                                                الرابع : ما أشار إليه بقوله : حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا أسد ، وهو أسد بن موسى ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس .

                                                وأخرجه البخاري ومسلم نحوه من حديث عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : "ليس [التحصيب] بشيء ؛ إنما هو منزل نزله رسول الله - عليه السلام - " .

                                                فهذا ابن عباس يخبر أن المحصب لا سنة ولا فضيلة ، وإنما نزل النبي - عليه السلام - فيه كما كان ينزل في سائر المنازل ، وقد عرفت أن مذهب جماعة من الصحابة منهم : ابن عباس وعائشة وأبو رافع وابن مسعود ، أن التحصيب ليس بسنة ، وإليه ذهب جماعة من التابعين كما ذكرناهم .

                                                [ ص: 68 ] وقال ابن عمر : "النزول بالمحصب سنة ، أناخ به رسول الله - عليه السلام - وأبو بكر وعمر وعثمان والخلفاء" .

                                                وقال مسلم : حدثني محمد بن حاتم بن ميمون ، قال : ثنا روح بن عبادة ، قال : ثنا صخر بن جويرية ، عن نافع : "أن ابن عمر كان يرى التحصيب سنة ، وكان يصلي الظهر يوم النفر بالحصبة" ، قال نافع : "قد حصب رسول الله - عليه السلام - والخلفاء بعده" .

                                                وفي "شرح الموطأ" : وروي عن ابن المواز ، عن مالك : استحب النزول بالمحصب إذا فرغ الإمام من أيام الرمي وصدر ، وإن لم يفعل فلا بأس .

                                                قال ابن وهب عنه : ذلك حسن للرجال والنساء وليس بواجب .

                                                وقال أيضا : قال مالك : استحب للأئمة ومن يفتدى به ألا يتجاوزوه حتى ينزلوا به ، ويتعين إحياء سنة النبي - عليه السلام - لئلا تترك جملة .

                                                وروى ابن حبيب عن مالك : هو لمن لم يتعجل ، فأما من تعجل في يومين فلا أرى له التحصيب .




                                                الخدمات العلمية