الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3874 3875 3876 ص: حدثنا علي بن معبد ، قال : ثنا شبابة بن سوار (ح). .

                                                وحدثنا حسين بن نصر ، قال : ثنا عبد الرحمن بن زياد (ح).

                                                وحدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : ثنا أبو داود : ، ثنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : " قدمت على رسول الله - عليه السلام - وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : بما أهللت ؟ قال : قلت : إهلال كإهلال النبي - عليه السلام - فقال رسول الله - عليه السلام - : أحسنت ، طف بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أحل ، ففعلت فأتيت امرأة من قيس ، فقلت رأسي ، فكنت أفتي الناس بذلك حتى كان زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال لي رجل : يا عبد الله بن قيس ، رويد بعض فتياك ؛ إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقلت : يا أيها الناس ، من كنا أفتيناه فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم فيه فائتموا ، فلما قدم عمر - رضي الله عنه - أتيته فذكرت له ، فقال لي عمر - رضي الله عنه - : إن تأخذ بكتاب الله فإن [ ص: 416 ] كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن تأخذ بسنة رسول الله - عليه السلام - فإن رسول الله - عليه السلام - لم يحل حتى بلغ الهدي محله" .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذه ثلاث طرق صحاح :

                                                الأول : عن علي بن معبد بن نوح المصري ، عن شبابة بن سوار الفزاري المدائني الثقة الصدوق المرجئ ، عن شعبة بن الحجاج ، عن قيس بن مسلم الجدلي العدواني الكوفي ، عن طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الصحابي ، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري - رضي الله عنه - .

                                                وأخرجه مسلم : ثنا محمد بن مثنى وابن بشار ، قال ابن مثنى : نا محمد بن جعفر ، قال : أنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : "قدمت على رسول الله - عليه السلام - وهو منيخ بالبطحاء ، فقال لي : حججت ؟ فقلت : نعم ، فقال : بم أهللت ؟ قال : قلت : لبيت بإهلال كإهلال النبي - عليه السلام - ، قال : فقد أحسنت ، طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل ، قال : فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي ، ثم أهللت بالحج ، فكنت أفتي به الناس ، حتى كان في خلافة عمر - رضي الله عنه - فقال له رجل : يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس - رويدك بعض فتياك ، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك ، فقال : يا أيها الناس ، من كنا أفتيناه فتيا فليتئد ؛ فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فائتموا ، قال : فقدم عمر - رضي الله عنه - فذكرت له ذلك ، فقال : إن تأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمر بالتمام ، وإن تأخذ بسنة رسول الله - عليه السلام - فإن رسول الله - عليه السلام - لم يحل حتى بلغ الهدي محله" .

                                                الثاني : عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن عبد الرحمن بن زياد الرصافي الثقفي ، عن شعبة ، عن قيس بن مسلم . . . إلى آخره .

                                                [ ص: 417 ] وأخرجه النسائي : أنا محمد بن المثنى ، عن عبد الرحمن ، قال : نا سفيان ، عن قيس - وهو ابن مسلم - عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : "قدمت على رسول الله - عليه السلام - وهو بالبطحاء فقال : بما أهللت ؟ قلت : بإهلال النبي - عليه السلام - ، قال : هل سقت من هدي ؟ قلت : لا ، قال : فطف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل ، فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني وغسلت رأسي ، فكنت أفتي الناس بذلك في إمارة أبي بكر وإمارة عمر - رضي الله عنهما - وإني لقائم بالموسم إذ جاءني رجل فقال : إنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك ، قلت : يا أيها الناس ، من كنا أفتيناه بشيء فليتئد ، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فائتموا به ، فلما قدم قلت : يا أمير المؤمنين ، ما هذا الذي أحدثت في شأن النسك ؟ ! قال : إن نأخذ بكتاب الله ؛ فإن الله - عز وجل - قال : وأتموا الحج والعمرة لله وإن نأخذ بسنة نبينا - عليه السلام - ، فإن نبينا - عليه السلام - لم يحل حتى نحر الهدي" .

                                                الثالث : عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق . . . إلى آخره .

                                                وأخرجه البخاري : ثنا محمد بن يوسف ، نا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : "بعثني النبي - عليه السلام - إلى قومي باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال : بم أهللت ؟ قلت : أهللت كإهلال النبي - عليه السلام - ، قال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأهللت ، فأتيت امرأة من قومي ، فمشطتني وغسلت رأسي ، فقدم عمر - رضي الله عنه - فقال : إن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمر بالتمام ؛ قال الله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله وإن نأخذ بسنة رسول الله - عليه السلام - فإنه لم يحل حتى نحر الهدي .

                                                [ ص: 418 ] قوله : "قدمت على رسول الله - عليه السلام - " وكان قدومه من اليمن على ما صرح به في رواية البخاري ، وكان النبي - عليه السلام - بعثه إلى قومه ، فاتفق على قدومه والنبي - عليه السلام - منيخ بالبطحاء وهو المحصب ، قال أبو عبيد : هو في حدود خيف بني كنانة ، وحده من الحجون ذاهبا إلى منى ، وهو بطحاء مكة - شرفها الله تعالى .

                                                قوله : "بما أهللت" قال ابن القياني : كذا وقع في الأمهات بالألف ، وصوابه بغير الألف كأنه استفهام ، قلت : معناه بأي شيء أحرمت .

                                                قوله : "إهلال كإهلال النبي - عليه السلام - " أي إهلالي إهلال كإهلال النبي - عليه السلام - فيكون ارتفاع إهلال على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وفي بعض النسخ : "إهلالا كإهلال النبي - عليه السلام - " بالنصب على تقدير : أهللت إهلالا كإهلال النبي - عليه السلام - ، وبهذا استدل مالك على جواز الإحرام المبهم ، وهو أن يقول : أحرمت كإحرام زيد ، وقال القاضي : أخذ الشافعي بظاهر هذا الحديث وجوز الإهلال بالنية المبهمة ، قال : ثم له بعد أن ينقلها لما شاء من حج أو عمرة ، وله عنده أن ينتقل من نسك إلى غيره ، وخالفه سائر العلماء والأئمة ؛ لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله ولقوله : ولا تبطلوا أعمالكم ؛ ولأن هذا كان لأبي موسى وعلي أيضا خصوصا إذ كان شرع الحج بعد ما فعله النبي - عليه السلام - لم يستقر ولم يكمل بعد ، فلم يمكنهما - أعني أبا موسى وعليا - رضي الله عنهما - الإقدام على أمر بغير تحقيق .

                                                فإن قيل : كيف أمر أبا موسى بالإحلال ولم يأمر عليا - رضي الله عنه - ، والحال أن كلا منهما قال : إهلال كإهلال النبي - عليه السلام - ؟

                                                قلت : لأن أمره لأبي موسى بالإحلال على معنى ما أمر به غيره بالفسخ بالعمرة لمن ليس معه هدي ، وأمره لعلي أن يهدي ويمكث حراما ؛ إما لأنه - والله أعلم - كان معه هدي ، أو يكون قد اعتقد النبي - عليه السلام - أنه يهدي عنه ، أو [ ص: 419 ] يكون قد خصه بذلك ، أو لما كان النبي - عليه السلام - أمره بسوق هذه البدن من اليمن فكان كمن معه هدي ، ولا يظن أن هذه البدن من السعاية والصدقة بوجه إذ لا تحل للنبي - عليه السلام - الصدقة ولا يهدي منها .

                                                والأشبه أن عليا - رضي الله عنه - اشتراها باليمن كما اشترى النبي - عليه السلام - بقيتها ، وجاء بها من المدينة على ما جاء في حديث جابر - رضي الله عنه - وجاء في الحديث أيضا أنه اشترى هديه بقديد ، وفي حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - : "فساق الهدي معه من ذي الحليفة " وكان النبي - عليه السلام - قد أعلمه أنه سيعطيه هدايا منها ، وفي حديث جابر أنه قدم ببدن النبي - عليه السلام - ، وقد يحتمل أنه كان له فيها هدي لم يحتج إلى ذكره في الحديث ، فلم يمكنه أن يحل ، ويدل على هذا سؤال النبي - عليه السلام - لأبي موسى هل ساق معه هديا ؟ ولم يسأل عليا - رضي الله عنه - ، فدل على علمه بأنه كان ممن أهدى أو ممن حكمه كحكم من أهدى . والله أعلم .

                                                قوله : "ثم أحل" أمر من الإحلال ، وفي بعض الرواية : "حل" بدون الهمزة ، من حل يحل والأولى من أحل يحل ، يقال : حل المحرم يحل حلالا ، وأحل يحل إحلالا ، إذا حل له ما حرم عليه من محظورات الحج ، ورجل حل من الإحرام أي حلال ، والحلال ضد الحرام ، ورجل حلال أي غير محرم ولا متلبس بأسباب الحج .

                                                قوله : "ففلت رأسي" بتخفيف اللام من فلى يفلي ، يقال : فليت رأسه من القمل وتفالى هو ، والفلي أخذ القمل من الشعر ، وذكره في الدستور من باب فعل يفعل بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل كضرب يضرب ، تقول : فلى يفلي فليا ، كرمى يرمي رميا .

                                                قوله : "فكنت أفتي الناس بذلك" أي بفسخ الحج في العمرة .

                                                قوله : "رويد بعض فتياك" وفي بعض الرواية : "رويدك بعض فتياك" وكذا هو في رواية مسلم .

                                                [ ص: 420 ] اعلم أن "رويد" اسم للفعل ، ومعناه : أمهل ، تقول : رويد زيدا أي أمهله ، وتدخل فيه الكاف أيضا فتقول : رويدك زيدا ، ورويدكما زيدا ، ورويدكم زيدا ، وهو مبني إذا كان اسما للفعل ، ومعرب إذا وقع صفة ، نحو : ساروا سيرا رويدا ، أو حالا نحو : ساروا رويدا أي مرودي ، أو مضافا نحو : رويد زيد .

                                                وفي الحديث مبني ؛ لأنه اسم للفعل .

                                                قوله : "فليتئد" أي فليتأن وليصبر ، يقال : اتأد في فعله إذا تأنى وثبت ولم يعجل ، وأصله من تئد يتئد تأدا ، فنقل إلى باب الافتعال فصار : اتأد يتئد ، وأصل الياء فيه واو من الوأد .

                                                قوله : "فبه فائتموا" أي بأمير المؤمنين ائتموا ، أراد : اتبعوه فيما يفعل من النسك .

                                                قوله : "وإن نأخذ بكتاب الله" بنون الجماعة ، ظاهر هذا الكلام من أمير المؤمنين إتمام الحج ، وإنكار فسخ الحج في العمرة ، لاحتجاجه بالآية ، وبفعل النبي - عليه السلام - .

                                                قوله : "فإن رسول الله - عليه السلام - لم يحل حتى بلغ الهدي محله" وهو ذبح الهدي يوم النحر ، وفيه حجة لأبي حنيفة وأحمد من أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر ، ومذهب الشافعي ومالك أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته ، وحل له كل شيء في الحال سواء كان ساق هديا أم لا ، والحديث حجة عليهما .




                                                الخدمات العلمية