الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3756 ص: حدثنا يونس ، قال : ثنا وهيب ، قال : أخبرني مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - عليه السلام - قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحداءة ، والعقرب ، والفأرة ، ، والكلب العقور" . .

                                                حدثنا ربيع المؤذن ، قال : ثنا شعيب بن الليث ، قال : ثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذان طريقان صحيحان ، ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ربيعا ، وأخرجه البخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك .

                                                [ ص: 276 ] ومسلم : عن يحيى ، عن مالك .

                                                وأخرجه النسائي : عن قتيبة بن سعيد ] ، قال : نا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أن رسول الله - عليه السلام - أذن في قتل خمس من الدواب للمحرم : الغراب ، والحداءة ، والفأرة ، والكلب العقور ، والعقرب" .

                                                قوله : "جناح" أي إثم وحرج .

                                                قوله : "الغراب" أي أحدها الغراب ، قال أبو المعالي : هو واحد الغربان ، وجمع القليل : أغربة ، ويجمع على غرب أيضا ، وفي "الجامع" ويجمع على أغرب أيضا ، وفي "المحكم" غرابين جمع الجمع ، وقيل : سمي غرابا لأنه نأى واغترب لما نوح - عليه السلام - يستخبر أمر الطوفان ، وفي كتاب "الحيوان" للجاحظ : الغراب الأبقع غريب ، وهو غراب البين ، وكل غراب فقد يقال له : غراب البين إذا أرادوا به الشؤم إلا غراب البين نفسه ، فإنه غراب صغير ، وإنما قيل لكل غراب : غراب البين لسقوطه في مواضع منازلهم إذا بانوا ، وناس يزعمون أن تسافدها على غير تسافد الطير وأنها تزاق بالمناقير وتلقح من هنالك ، وفي "الموعب" الغراب الأبقع هو الذي في صدره بياض ، وفي "المحكم" غراب أبقع يخالط سواده بياض ، وهو أخبثها ، وبه يضرب المثل لكل خبيث ، وقال أبو عمر : هو الذي في بطنه وظهره بياض ، وذكر صاحب "الهداية" : المراد بالغراب آكل الجيف ، وهو الأبقع ، روي ذلك عن أبي يوسف .

                                                قوله : "والحداءة" بكسر الحاء وبعد الدال ألف ممدودة بعدها همزة مفتوحة ، وجمعها "حدء" مثل عنب و "حدان" كذا في "الدستور" وقال الجوهري : ولا يقال : حداه ، وفي "المطالع" الحداءة لا يقال فيها إلا بكسر الحاء ، وقد جاء الحداء يعني بالفتح وهو جمع حداءة أو مذكرها ، وجاء الحديا على وزن الثريا .

                                                [ ص: 277 ] قوله : "والعقرب" قال ابن سيده : "العقرب" للأنثى : عقربة ، والعقربان للذكر منها ، وفي "المنتهى" : الأنثى "عقرباء" ممدود غير مصروف ، وقيل : "العقربان" دويبة كثيرة القوائم غير العقرب ، وعقربة شاذة ، ومكان معقرب بكسر الراء - ذو عقارب ، وأرض معقربة ، وبعضهم يقول : معقرة كأنه رد العقرب إلى ثلاثة أحرف ، ثم بنى عليه ، وفي "الجامع" : ذكر العقارب عقربان والدابة الكثيرة القوائم عقربان بتشديد الباء .

                                                قوله : "والفأرة" واحدة الفئران والفئرة ، ذكره ابن سيده ، وفي "الجامع" : أكثر العرب على همزها .

                                                قوله : "الكلب العقور" ذكر أبو عمر : أن ابن عيينة قال : هو كل سبع يعقر ، ولم يخص الكلب ، قال سفيان : وكذا فسره لنا زيد بن أسلم ، وكذا قال أبو عبيد ، وعن أبي هريرة : الكلب العقور الأسد ، وعن مالك : هو كل ما عقر الناس وعدا عليهم ، مثل : الأسد والنمر والفهد ، فأما ما كان من السباع لا يعدو ، مثل الضبع والثعلب وشبههما فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه ، وزعم النووي أن العلماء اتفقوا على جواز قتل الكلب العقور للمحرم والحلال في الحل والحرم ، واختلفوا في المراد به ، فقيل : هو الكلب المعروف ، حكاه عياض عن أبي حنيفة والأوزاعي والحسن بن حي ، وألحقوا به الذئب ، وحمل زفر الكلب على الذئب وحده ، وذهب الشافعي والثوري وأحمد وجمهور العلماء إلى أن المراد كل مفترس غالبا . قال أبو المعاني : جمع الكلب أكلب وكلاب وكليب وهو جمع عزيز لا يكاد يوجد إلا القليل نحو عبد وعبيد ، وجمع الأكلب أكالب ، وفي "المحكم" وقد قالوا في جمع كلاب : كلابات ، والكالب كالجامل جماعة الكلاب ، والكلبة أنثى الكلاب وجمعها كلبات ولا يكسر .

                                                واستفيد من الحديث :

                                                جواز قتل هذه الخمسة من الدواب للمحرم ، فإذا أبيح للمحرم فللحلال بالطريق الأولى ، أما الغراب فقد قلنا المراد به الأبقع وهو الذي يأكل الجيف ، كما قال صاحب "الهداية" وقال القرطبي : هذا تقييد لمطلق الروايات التي ليس فيها [ ص: 278 ] الأبقع ، وبذلك قالت طائفة ، فلا يجيزون إلا قتل الأبقع خاصة ، وطائفة رأوا جواز قتل الأبقع وغيره من الغربان ، ورأوا أن ذكر الأبقع إنما جرى لأنه الأغلب .

                                                قلت : روى مسلم عن ابن مثنى وابن بشار ، كلاهما عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي - عليه السلام - أنه قال : "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : والحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحدئا" فالروايات المطلقة محمولة على هذه الرواية المقيدة ، وذلك لأن الغراب إنما أبيح قتله لكونه يبتدئ بالأذى ولا يبتدئ بالأذى إلا الغراب الأبقع ، أما الغراب غير الأبقع فلا يبتدئ بالأذى فلا يباح قتله كالعقعق وغراب الزرع ، ولأن الغراب الأبقع يأكل الجيف ويقع على وبر البعير وصاحبه قريب منه بخلاف غيره فإنه لا يأكل الجيف .

                                                فإن قيل : قال ابن بطال : هذا الحديث لا يعرف إلا من حديث سعيد ولم يروه عنه غير قتادة وهو مدلس ، وثقات أصحاب سعيد من أهل المدينة لا يوجد عندهم هذا القيد ، مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة - رضي الله عنهم - فلا حجة فيه حينئذ .

                                                قلت : هذا الذي ذكره ليس بعلة يرد بها الحديث .

                                                وقوله : "مع معارضة حديث ابن عمر وحفصة " غير صحيح إذ لا معارضة بين الحديثين وإنما هما مطلق ومقيد ، فحمل المطلق على المقيد كما ذكرنا ، وقال ابن بطال أيضا : روى عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا : لا يقتل الغراب ولكن يرمى قال : وهذا خلاف السنة .

                                                قلت : روي عن محمد بن الحنفية ، عن علي - رضي الله عنه - : "يقتل الغراب الأبقع ، ويرمى الغراب تخويفا ، وأما الغراب الذي يأكل الزرع فهو الذي يرمى ولا يقتل ، وهو الصفة الذي استثناه مالك من جملة الغربان ، قال القشيري : في قتله قولان للمالكية : أشهرها القتل لعموم الحديث ، وأما منع القتل فإنه اعتبر الصفة التي علل [ ص: 279 ] بها القتل وهو الفسق على ما يشهد به إيماء اللفظ ، وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة ، والحكم يزول بزوال علته ، وعن أبي مصعب فيما ذكره ابن العربي : في الغراب والحدأة وإن لم يبدءا بالأذى ويؤكل لحمهما عند مالك ، وروي عنه المنع في المحرم سدا لذريعة الاصطياد ، قال أبو بكر : وأصل المذهب ألا يقتل من الطير إلا ما آذى بخلاف غيره فإنه يقتل ابتداء ، وقال أبو عمر : الأبقع من الغربان الذي في ظهره وبطنه بياض ، وكذلك الكلب الأبقع أيضا ، والغراب الأذرع ، والذرعى هو الأسود ، والغراب الأعصم هو الأبيض الرجلين وكذلك الوعل عصمته بياض في رجليه ، وقال مجاهد : يرمي الغراب ولا يقتله ، وقال به قوم ، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري : "أن النبي - عليه السلام - سئل عما يقتله المحرم ، فقال : الحية والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله" وقال أبو عمر : حديث عبد الرحمن بن [أبي أنعم] عن أبي سعيد الخدري عن النبي - عليه السلام - أنه قال في الغراب : "يرميه المحرم ولا يقتله" فليس مما يحتج به على مثل حديث نافع عن ابن عمر وسالم عن ابن عمر أنه أباح للمحرم قتل الغراب ، وقال أبو عمر : احتج من كره أكل الغراب وغيره من الطير التي تأكل الجيف ومن كره أكل هوام الأرض أيضا بحديث النبي - عليه السلام - هذا "أنه أمر بقتل الغراب والحدأة والعقرب والحية والفأرة" ، قال : وكل ما أمر رسول الله - عليه السلام - بقتله فلا يجوز أكله ، هذا قول الشافعي وأبي ثور وداود ، وقال مالك : لا بأس بأكل سباع الطير كلها ، الرخم والنسور والعقبان وغيرها ، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل ، قال : ولا بأس بأكل لحوم الدجاج الجلالة وكل ما يأكل الجيف ، وهو قول الليث بن سعد ويحيى بن سعيد وربيعة وأبي الزناد ، وقال الأوزاعي : الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم ، وقال مالك : لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت ، وهو قول : ابن أبي ليلى والأوزاعي ، إلا أنهما لم يشترطا فيها الزكاة ، وقال ابن القاسم عن مالك : لا بأس بأكل الضبع (*) ، وقال ابن القاسم : لا بأس بأكل [ ص: 280 ] خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك ، وقال مالك : لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه ، وأما الحداءة فإنه يجوز قتلها سواء كان للمحرم أو للحلال لأنها تبتدئ بالأذى وتخطف اللحم من أيدي الناس ، وروي عن مالك في الحداءة والغراب أنه لا يقتلهما المحرم إلا أن يبتدئا بالأذى ، والمشهور من مذهبه خلافه ، وأما العقرب فإنه يجوز قتله مطلقا حتى في الصلاة ، لأنه يقصد اللدغ ويتبع الحس ، وذكر أبو عمر عن حماد بن أبي سليمان والحكم أن المحرم لا يقتل الحية ولا العقرب . رواه عنهما شعبة ، قال : وحجتهما أنهما من هوام الأرض ، وقال القاضي : لم يختلف في قتل الحية والعقرب ، ولا في قتل الحلال الوزغ في الحرم وقال أبو عمر : لا خلاف عند مالك وجمهور العلماء في قتل الحية والعقرب في الحل والحرم وكذلك الأفعى .

                                                وأما الفأرة فإنه يجوز قتلها مطلقا ، وقال ابن المنذر : لا خلاف بين العلماء في جواز قتل المحرم الفأرة ، إلا النخعي فإنه منع المحرم من قتلها ، وهو قول شاذ ، وقال القاضي : وحكى الساجي عن النخعي أنه لا يقتل المحرم الفأرة فإن قتلها فداها ، وهذا خلاف النص ، فافهم .




                                                الخدمات العلمية