الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3806 3807 ص: حدثنا يزيد بن سنان ، قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : ثنا يحيى بن سعيد] ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة ، عن رجل من بهز : " أن رسول الله - عليه السلام - مر بالروحاء ، ، فإذا هو بحمار وحشي عقير ، فيه سهم ، ، فقال رسول الله - عليه السلام - : دعوه حتى يجيء صاحبه ، فجاء البهزي ، فقال : يا رسول الله ، هي رميتي فكلوا ، فأمر أبا بكر - رضي الله عنه - أن يقسمه بين الرفاق وهم محرمون ، ثم سار حتى إذا كان بالأثاية إذا هو بظبي مستظل في حقف جبل فيه سهم وهو حي ، فقال رسول الله - عليه السلام - لرجل : قف ها هنا لا يريبه أحد حتى يمضي الرفاق . .

                                                حدثنا يونس ، قال : ثنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه عن يحيى بن سعيد] ، أنه قال : أخبرني محمد بن إبراهيم ، ثم ذكر بإسناده مثله .

                                                التالي السابق


                                                ش: هذان طريقان :

                                                الأول : رجاله كلهم رجال الجماعة ما خلا يزيد بن سنان ، وعمير بن سلمة الضمري له صحبة ، ورجل من بهز غير مسمى ، قال أبو عمر بن عبد البر اسمه زيد بن كعب السلمي ، ثم البهزي وهو صاحب الحمار العقير وسماه [ ص: 327 ] البغوي وغيره أيضا زيد بن كعب ، ونسبته إلى بهز بالباء الموحدة والزاي المعجمة ، وبهز هي تميم بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده" : ثنا يزيد بن هارون ، نا يحيى ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة ، عن رجل من بهز : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج وهو يريد مكة ، حتى إذا كان في بعض وادي الروحاء ، وجد الناس حمار وحش عقيرا ، فذكروا ذلك لرسول الله - عليه السلام - ، فقال : ذروه حتى يأتي صاحبه ، فأتى البهزي وكان صاحبه ، فقال : يا رسول الله ، شأنكم بهذا الحمار ، فأمر رسول الله - عليه السلام - أبا بكر فقسمه بين الرفاق وهم محرمون ، قال : ثم سرنا حتى إذا كان بالأبواء فإذا ظبي حاقف في ظل شجرة وفيه سهم ، فأمر النبي - عليه السلام - رجلا يقيم عنده حتى يجيز الناس عنه" .

                                                وأخرجه البيهقي : من طريق أحمد نحوه .

                                                الثاني : رجاله كلهم رجال الصحيح .

                                                وأخرجه مالك في "موطأه" : عن يحيى بن سعيد ] ، أنه قال : أخبرني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله ، عن عمير بن سلمة الضمري ، عن البهزي : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج يريد مكة ، حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير ، فذكر ذلك لرسول الله - عليه السلام - ، فقال : دعوه فإنه يوشك أن يأتي صاحبه ، فجاء البهزي وهو صاحبه إلى رسول الله - عليه السلام - ، فقال : يا رسول الله ، شأنكم بهذا الحمار ، فأمر رسول الله - عليه السلام - أبا بكر - رضي الله عنه - فقسمه بين الرفاق ، ثم مضى حتى إذا كان بالأثاية بين الرويثة والعرج إذا ظبي حاقف في ظل ، [ ص: 328 ] وفيه سهم ، فزعم أن رسول الله - عليه السلام - أمر رجلا يقف عنده ؛ لا يريبه أحد من الناس حتى يجاوزوه" .

                                                وأخرجه النسائي : عن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين ، عن ابن القاسم ، عن مالك . . . إلى آخره نحوه .

                                                وهذا الحديث صحيح بلا خلاف ، ولكن الكلام في أنه هل هو لعمير بن سلمة عن النبي - عليه السلام - ، أو هو عن عمير عن البهزي ؟ فقال أبو عمر : من أصحاب يحيى بن سعيد من يجعل هذا الحديث عن عمير بن سلمة ، عن النبي - عليه السلام - لا يذكر فيه البهزي ، وعمير بن سلمة من الصحابة ، والبهزي هو صاحب الحمار .

                                                وقال أيضا : لم يختلف على مالك في إسناد هذا الحديث ، واختلف أصحاب يحيى عنه على يحيى ، فرواه جماعة كما رواه مالك ، ورواه حماد بن زيد وهشيم ويزيد بن هارون وعلي بن مسهر ، عن يحيى بن سعيد ] ، عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري ، عن النبي - عليه السلام - فالحديث لعمير فيما قال حماد ، وتابعه على ذلك جماعة منهم هشيم وعلي بن مسهر ويزيد بن هارون ، وعمير بن سلمة من كبار الصحابة ، وجعله مالك عن عمير ، عن البهزي ، عن النبي - عليه السلام - .

                                                وفي متن حديث حماد بن زيد قال : "جاء رجل من بهز فقال : يا رسول الله ، أصبت هذا بالأمس ، فشأنكم به" .

                                                قال أبو عمر : ومما يدلك على صحة رواية حماد بن زيد ومن تابعه : أن يزيد بن الهاد وعبد الله بن سعيد رويا هذا الحديث عن محمد بن إبراهيم ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمير بن سلمة الضمري ، قال : "خرجنا مع رسول الله - عليه السلام - " . وفي رواية يزيد بن الهاد : "بينا نحن مع رسول الله - عليه السلام - " . رواه الليث بن سعد هكذا عن يزيد بن الهاد ، وقال موسى بن هارون : الصحيح عندنا أن هذا الحديث رواه عمير بن سلمة عن النبي - عليه السلام - ليس بينه وبين النبي - عليه السلام - أحد ، قال موسى بن [ ص: 329 ] هارون : ولم يأت ذكر البهزي عن مالك ؛ لأن جماعة رووه عن يحيى كما رواه مالك ، ولكن إنما جاء ذلك من يحيى بن سعيد ] ، كان يرويه أحيانا فيقول فيه : عن البهزي قال ، وأحيانا لي قول فيه : عن البهزي .

                                                قلت : هذه رواية الطحاوي من طريقين عن عمير بن سلمة ، عن رجل من بهز ، فالحديث للبهزي لا لعمير بن سلمة والله أعلم .

                                                قوله : "بالروحاء" هو موضع بينه وبين المدينة ميل ، وفي حديث جابر : "إذا أذن المؤذن هرب الشيطان [حتى] يكون بالروحاء وهي من المدينة ثلاثون ميلا" .

                                                رواه أحمد : وقال أبو علي القالي في كتاب "الممدود والمقصور" : "الروحاء" موضع على ليلتين من المدينة ، وفي "المطالع" : الروحاء من عمل الفرع ، على نحو أربعين ميلا من المدينة .

                                                وفي مسلم : "على ستة وثلاثين" . وفي كتاب ابن أبي شيبة : "على ثلاثين" .

                                                قوله : "عقير" أي أصابه عقر ولم يمت بعد ، والعقر : الجرح ، والعقير تقع صفة للمذكر والمؤنث ، يقال : حمل عقير ، وناقة عقير .

                                                قوله : "فجاء البهزي " أي الرجل البهزي ، وهو زيد بن كعب الصحابي .

                                                قوله : "هي رميتي" الرمية بفتح الراء وكسر الميم وتشديد الياء ، وهي الصيد الذي يرميه الرجل فيقصده وينفذ فيه سهمه .

                                                قوله : "حتى إذا كان بالأثاية" بفتح الهمزة وفتح الثاء المثلثة وبعد الألف ياء آخر الحروف مفتوحة وفي آخره هاء ، وهي اسم المنهل بين الرويثة والعرج ، وقال أبو عمر : الأثاية والرويثة والعرج والروحاء منازل ومناهل بين مكة والمدينة ، وفي [ ص: 330 ] "المطالع" : الأثاية موضع بطريق الجحفة بينه وبين المدينة سبعة وسبعون ميلا ، وهي "فعالة" من أثيت به إذا وثبت ، قاله ثابت ، ورواه بعض الشيوخ بكسر الهمزة ، وبعضهم يقول : الأثاثة بثائين ، وبعضهم الأثانة بالنون ، والأول الصواب بالفتح والكسر .

                                                قال أيضا : "الرويثة" بطريق مكة من المدينة ، قلت : هي بضم الراء وفتح الواو وسكون الياء آخر الحروف وفتح الثاء المثلثة ، وفي آخره هاء ، و "العرج" بفتح العين المهملة وسكون الراء وبالجيم ، وهي قرية جامعة من عمل الفرع ، على نحو من ثمانية وسبعين ميلا من المدينة ، وهو أول تهامة ، وقاله في "المطالع" .

                                                قوله : "في حقف جبل" الحقف بكسر الحاء المهملة وسكون القاف : ما اعوج من الرمل واستطال ، ويجمع على أحقاف ، وقال الجوهري : "الحقف" المعوج من الرمل ، والجمع حقاف وأحقاف ، وفي رواية أحمد : "فإذا ظبي حاقف" أي نائم قد انحنى في نومه .

                                                قوله : "لا يريبه أحد" أي لا يتعرض له أحد ويزعجه ، وأصله من رابني الشيء وأرابني بمعنى شككني ، وقيل : أرابني في كذا أي شككني وأوهمني الريبة فيه ، فإذا استيقنته قلت: رابني بلا ألف .

                                                ويستفاد منه : جواز أكل ما صاده الحلال للمحرم ، وعدم جواز تنفير الصيد للمحرم وإعانته عليه ، ألا ترى أن رسول الله - عليه السلام - أمر رجلا أن يقف عند الظبي الحاقف حتى يجاوزه الناس لا يريبه أحد أي لا يحركه ولا يهيجه .

                                                وفيه : أن الصائد إذا أصاب الصيد برمحه أو نبله فقد ملكه بذلك ، إذا كان الصيد لا يمتنع من أجل ذلك الفعل ؛ لقوله - عليه السلام - حتى يأتيه صاحبه .

                                                واستدل به أيضا من جوز هبة المشاع ؛ لقول البهزي للجماعة هذه رميتي فكلوه ، وفي رواية : "شأنكم بهذا الحمار ، فقسمه أبو بكر بينهم بأمر رسول الله - عليه السلام - " .




                                                الخدمات العلمية