الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3917 3918 ص: وكان من حجتنا عليهم لمخالفتهم : أنا قد روينا عن عقيل ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، فيما تقدم من هذا الباب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه ، والمتمتع قد علمنا أنه الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة ، ثم قالت عائشة - رضي الله عنها - في حديث مالك عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : "خرجنا مع النبي - عليه السلام - في حجة الوداع فأهللنا بعمرة ، فأخبرت أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون ، قالت : ثم قال رسول الله - عليه السلام - : من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما" ولم يبين في هذا الحديث الموضع الذي قال لهم فيه هذا القول ، فقد يجوز أن يكون قاله لهم قبل دخول مكة ، أو بعد دخول مكة قبل الطواف فيكونون قارنين بتلك الحجة للعمرة التي كانوا أحرموا بها قبلها ، ويجوز أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإحرام بها .

                                                فنظرنا في ذلك فوجدنا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري - رضي الله عنهم - قد أخبرا في حديثيهما اللذين رويناهما عنهما في باب : فسخ الحج ، أن رسول الله - عليه السلام - قال ذلك القول في آخر طواف العمرة على المروة ، فعلمنا أن قول عائشة - رضي الله عنها - في حديث مالك : ". وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة التي قد كانوا طافوا لها طوافا واحدا ؛ لأن حجتهم تلك المضمومة مع العمرة كانت مكية ، والحجة المكية [ ص: 466 ] لا يطاف لها قبل عرفة ، إنما يطاف لها بعد عرفة ، على ما كان ابن عمر يفعل فيما رويناه [عنه] ، فقد عاد معنى ما روينا عن عائشة في هذا الباب وما صححنا من ذلك لننفي التضاد عنه إلى معنى ما روينا عن ابن عمر وما صححنا من ذلك ، فليس شيء من هذا يدل على حكم القارن حجة كوفية مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما ، هل هو طواف واحد أو طوافان ؟

                                                التالي السابق


                                                ش: هذا جواب عن احتجاج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة في أن القارن يكفيه طواف واحد ، وحاصله يؤدي إلى أن حديث عائشة المذكور لا يدل على أن القارن بين الحجة والعمرة الكوفيتين كيف طوافه لهما ؟ هل هو طواف واحد أم طوافان ؟ بيان ذلك مبني على تمهيد كلام قبله ، وهو أن حديث عائشة - رضي الله عنها - يعارضه حديثها الآخر ، وهو ما رواه عقيل بن خالد الأيلي ، عن الزهري ، عن عروة ، عنها : "أنه - عليه السلام - في حجة الوداع تمتع وتمتع الناس معه" وقد مر ذكره في باب : ما كان النبي - عليه السلام - محرما في حجة الوداع ، فإذا وفق بين الحديثين واندفعت المعارضة علم ما ادعينا ، وعلم أيضا أن معنى حديثها يرجع إلى معنى حديث ابن عمر المذكور قبله الذي احتج به أهل المقالة الأولى من أن القارن يطوف طوافا واحدا ، فنقول : من المعلوم أن المتمتع هو الذي يهل بحجة بعد طوافه للعمرة ، وأخبرت عائشة في حديث مالك أنهم دخلوا في إحرامهم كما يدخل المتمتعون وقالت : "ثم قال رسول الله - عليه السلام - : من كان معه هدي . . . الحديث" ولكنها لم تبين في هذا الحديث الموضع الذي قال لهم - عليه السلام - هذا القول ، ثم هو يحتمل أن يكون قال لهم ذلك قبل دخول مكة ، ويحتمل أن يكون بعد دخول مكة قبل الطواف ، فيكونون قارنين بتلك الحجة والعمرة التي كانوا أحرموا بها قبل تلك الحجة ، ويحتمل أن يكون قال لهم ذلك بعد طوافهم للعمرة فيكونون متمتعين بتلك الحجة التي أمرهم بالإحرام بها ، فنظرنا في ذلك فوجدنا قد بين ذلك في حديث جابر وأبي سعيد ؛ فإنهما أخبرا في [ ص: 467 ] حديثيهما أن رسول الله - عليه السلام - قال ذلك القول في آخر طواف على المروة ، وقد مر هذا في باب من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف ، وهو الباب الذي أراد بقوله : "رويناهما عنهما في باب : فسخ الحج .

                                                فإذا كان الأمر كذلك ، علم أن قول عائشة في حديث مالك : "وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة" أنها أرادت بذلك جمع متعة لا جمع قران ؛ لأن حديث جابر قد فسر أن قوله - عليه السلام - : "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة" إنما كان في آخر طواف على المروة ، ولا شك أن الذي يهل بالحج بعد الطواف للعمرة يكون جامعا بين الحج والعمرة للمتعة لا للقران ، فبهذا حصل التوفيق أيضا بين حديثي عائشة اللذين بينهما تضاد ظاهرا .

                                                وعلم أيضا أنه ليس في حديثهما ما يدل على حكم القارن حجة كوفية مع عمرة كوفية كيف طوافه لهما ، هل هو طواف واحد أو طوافان ؟ وذلك لأن حجتهم تلك المضمومة إلى عمرة كانت مكية ، والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة ، وإنما يطاف لها بعدها على ما كان عبد الله بن عمر يفعل كذلك ، وقد مر هذا في حديث أيوب عن نافع عن ابن عمر في هذا الباب عن قريب .

                                                وقد شنع البيهقي في هذا الموضع في كتاب "المعرفة" على الطحاوي وقال : وزعم بعض من يدعي تصحيح الأخبار على مذهبه أنها أرادت بهذا الجمع جمع متعة لا جمع قران ، قالت : فإنما طافوا طوافا واحدا في حجتهم ؛ لأن حجتهم كانت مكية والحجة المكية لا يطاف لها قبل عرفة ، وكيف استجاز لدينه أن يقول مثل هذا ؟ ! وفي حديثها أنها أفردت من جمع بينهما جمع متعة أولا بالذكر ، فذكرت كيف طافوا في عمرتهم ، ثم كيف طافوا في حجتهم ، ثم لم يبق إلا المفردون والقارنون فجمعت بينهم في الذكر ، وأخبرت أنهم إنما طافوا طوافا واحدا ، وإنما أرادت بين الصفا والمروة لما ذكرنا من الدلالة مع كونه معقولا ، ولو اقتصرت على اللفظة الأخيرة لم [ ص: 468 ] يجز حملها أيضا على ما ذكر ؛ لأنها تقتضي اقتصارا على طواف واحد لكل ما حصل به الجمع ، والجمع إنما حصل بالعمرة والحج جميعا ، فيقتضي اقتصارا على طواف واحد لهما جميعا لا لأحدهما ، والتمتع لا يقتصر على طواف واحد بالإجماع ؛ فدل أنها أرادت بهذا الجمع : جمع قران .

                                                قلت : لم يفهم البيهقي كلام الطحاوي هذا فلذلك شنع عليه هذا التشنيع الباطل إظهارا للتعصب المحض ، ألا ترى كيف تأول قولها : "فإنما طافوا طوافا واحدا" أنها أرادت بهذا السعي بين الصفا والمروة ؟ ! فما الضرورة إلى تأويل الطواف بالسعي ؟ ! بل المراد الطواف بالبيت ، وقوله : يقتضي اقتصارا على طواف واحد . . . إلى آخره . ليس كذلك ؛ لأنه قال : إن حجتهم تلك صارت مكية ، والحجة المكية يطاف لها بعد عرفة ، فإذا كان كذلك يقتصر المتمتع على طواف واحد ، على أنا نقول: أحاديث عائشة - رضي الله عنها - في هذا الباب مضطربة جدا لا يتم بها الاستدلال لأحد من الخصوم ، وقد قالت في رواية : "أهللنا بعمرة" وفي أخرى : "فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج - قالت - : فلم أهل إلا بحج" وفي أخرى : "مهلين بالحج" ، والكل صحيح ، وفي رواية : "وكنت ممن تمتع ولم يسق الهدي" ، حتى قال مالك : ليس العمل على حديث عروة عنها قديما ولا حديثا .




                                                الخدمات العلمية