الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                3914 3915 3916 ص: قيل لهم : فكيف يجوز أن تقبلوا هذا عن ابن عمر ، وقد حدثنا يزيد بن سنان ، وابن أبي داود ، قالا : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثنا الليث ، قال : ثنا عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر قال : " تمتع رسول الله - عليه السلام - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، ، وأهدى وساق الهدي من ذي الحليفة ، ، وبدأ رسول الله - عليه السلام - فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج ، وتمتع الناس مع رسول الله - عليه السلام - بالعمرة إلى الحج" . .

                                                فهذا ابن عمر يخبر عن رسول الله - عليه السلام - أنه كان في حجة الوداع متمتعا ، وأنه بدأ بالعمرة ، وقد حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عمر : "أن النبي - عليه السلام - وأصحابه قدموا ملبين بالحج ، فقال رسول الله - عليه السلام - : من شاء أن يجعلها عمرة ، إلا من كان معه الهدي" .

                                                فأخبر ابن عمر - رضي الله عنهما - في حديث بكر هذا أن رسول الله - عليه السلام - قدم مكة ، وهو يلبي بالحج ، وقد أخبر في حديث سالم أن رسول الله - عليه السلام - بدأ فأحرم بالعمرة فهذا معناه عندنا - والله أعلم - أنه كان أحرم أولا بحجة على أنها حجة ثم فسخها فصيرها عمرة ، فلبى بالعمرة ثم تمتع بها إلى الحج ، ، حتى يصح حديث سالم 5 وبكر هذين [ ص: 459 ] ولا يتضادان ، وفسخ رسول الله - عليه السلام - الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه هو بعد طوافهم بالبيت ، . قد ذكرنا ذلك في باب فسخ الحج ، ، فأغنانا ذلك عن إعادته ها هنا ، فاستحال بذلك أن يكون الطواف الذي كان رسول الله - عليه السلام - فعله للعمرة التي انقلبت إليها حجته مجزيا عنه من طواف حجته التي أحرم به بعد ذلك ، ولكن وجه ذلك عندنا - والله أعلم - : أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر ؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر في الحجة إنما يفعل للقدوم لا لأنه من صلب الحجة ، فاكتفى ابن عمر بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته ، وهذا مثل ما روي عن ابن عمر أيضا من فعله .

                                                حدثنا محمد بن خزيمة ، قال : ثنا حجاج ، قال : ثنا حماد ، عن أيوب ، عن نافع : " ، أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا قدم مكة رمل بالبيت ، ، ثم طاف بين الصفا والمروة ، ، وإذا لبى من مكة بها لم يرمل بالبيت ، ، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر ، وكان لا يرمل يوم النحر . .

                                                فدل ما ذكرنا أن ابن عمر - رضي الله عنهما - كان إذا أحرم بالحجة من مكة ، لم يطف لها إلى يوم النحر ، فكذلك ما روي عن رسول الله - عليه السلام - من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخ حجته الأولى لم يكن طاف لها بك يوم النحر ، فليس في حديث ابن عمر ، عن النبي - عليه السلام - من حكم طواف القارن لعمرته وحجته شيء ، وثبت بما ذكرنا أيضا خطأ الدراوردي في حديث عبيد الله الذي وصفناه .

                                                التالي السابق


                                                ش: بيان هذا الجواب يحتاج إلى تمهيد كلام قبله ، وهو أن أخبار ابن عمر في هذا الباب مضطربة ظاهرها متضاد ، ألا ترى أن سالما روى عنه أنه قال : "تمتع رسول الله - عليه السلام - في حجة الوداع . . . " الحديث .

                                                أخرجه عن يزيد بن سنان القزاز ، وإبراهيم بن أبي داود البرلسي ، كلاهما عن عبد الله بن صالح ، عن الليث بن سعد ، عن عقيل - بضم العين - بن خالد الأيلي ، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، عن سالم .

                                                [ ص: 460 ] وذكره بعينه في باب : ما كان النبي - عليه السلام - محرما في حجة الوداع .

                                                فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه - عليه السلام - كان في حجة الوداع متمتعا ، وأنه بدأ فأحرم بالعمرة أولا ، وروى عنه بكر بن عبد الله : "أن النبي - عليه السلام - وأصحابه قدموا ملبين بالحج . . . " الحديث .

                                                أخرجه عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد الطويل ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عمر .

                                                وذكره أيضا بعينه في باب : من أحرم بحجة فطاف لها قبل أن يقف بعرفة .

                                                فهذا ابن عمر يخبر في حديثه هذا أنه - عليه السلام - قدم مكة وهو يلبي بالحج ، فبين الخبرين تضاد لا يخفى .

                                                وأشار إلى وجه التوفيق بينهما دفعا للتضاد المذكور بقوله : "فهذا معناه عندنا ، والله أعلم" . بيانه أن يقال : إنه - عليه السلام - كان أحرم أولا بحجة على أنها حجة ، ثم فسخها فجعلها عمرة فلبى بالعمرة ، ثم تمتع بهذه العمرة إلى الحج ، ولكن كان فسخه الحج الذي كان فعله وأمر به أصحابه بعد طوافهم بالبيت على ما ذكره في باب فسخ الحج ، فإذا كان كذلك استحال أن يكون الطواف الذي كان رسول الله - عليه السلام - فعله للعمرة التي انقلبت عنها حجته كافيا عنه عن طواف حجته التي أحرم بها بعد ذلك ، ولكن وجهه أنه لم يطف لحجته قبل يوم النحر ؛ لأن الطواف الذي يفعل قبل يوم النحر يفعل للقدوم ، وليس ذلك من صلب الحج ، وهو معنى قوله : "لا لأنه من صلب الحج" أي لا يفعل ذلك لأجل أنه من صلب الحج ، ولكن ابن عمر - رضي الله عنهما - اكتفى بالطواف الذي كان فعله بعد القدوم في عمرته عن إعادته في حجته ، وهذا مثل ما روي عنه من فعله : "أنه كان إذا قدم مكة رمل بالبيت ، ثم طاف بين الصفا والمروة ، وإذا لبى من مكة لم يرمل بالبيت ، وأخر الطواف بين الصفا والمروة إلى يوم النحر ، وكان لا يرمل يوم النحر" .

                                                أخرجه بإسناد صحيح ، عن محمد بن خزيمة ، عن حجاج بن منهال ، عن حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني ، عن نافع ، عنه .

                                                [ ص: 461 ] وأخرجه مالك في "موطأه" عن نافع : "أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى ، وكان لا يرمل إذا طاف حول البيت إذا أحرم من مكة " انتهى .

                                                فإذا ثبت هذا فقد دل على أن ابن عمر كان إذا أحرم من مكة لم يطف لها إلى يوم النحر ، فكذلك ما روي عن النبي - عليه السلام - من إحرامه بالحجة التي أحرم بها بعد فسخه حجته الأولى لم يكن طاف لها إلى يوم النحر ، فإذا كان كذلك فكيف يجوز أن نقبل ما ذكروه عن ابن عمر في الاحتجاج فيما ذهبوا إليه ؟ ! وليس في حديثه عن النبي - عليه السلام - ما يبين حكم طواف القارن لعمرته وحجته ، فدل ذلك أيضا على خطأ الدراوردي في رفعه الحديث عن عبيد الله بن عمر . والله أعلم .




                                                الخدمات العلمية