الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            17 - كتاب الطلاق.

                                                                            باب الخلع.

                                                                            قال الله تعالى: ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) .

                                                                            قال طاوس: "إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة".

                                                                            2349 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، نا محمد بن إسماعيل، أنا أزهر بن جميل، أنا عبد الوهاب الثقفي، نا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، [ ص: 194 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟" قالت: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة".

                                                                            هذا حديث صحيح.

                                                                            وروي عن عمرة، عن عائشة، أن حبيبة بنت سهل، كانت عند ثابت بن قيس بن شماس، فضربها، فكسر بعضها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم ثابتا، فقال: "خذ بعض مالها وفارقها"، قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: "نعم"، قال: فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذهما وفارقها".

                                                                            ففعل.


                                                                            ففيه دليل على أن الزوج إذا ضرب زوجته ضرب تأديب ، فاختلعت نفسها ، فجائز ، أما إذا أكرهها بالضرب من غير سبب حتى اختلعت نفسها ، لا يصح الخلع ، ولا تقع به البينونة ، هذا إذا قال الزوج : طلقتك على ألف ، وأكرهها على القبول ، فإن أكرهها على التزام المال ، وقال الزوج : طلقتك مطلقا ، يقع الطلاق رجعيا ، ولا يلزمها المال .

                                                                            ولو لم ينلها بالضرب ، لكنه آذاها بمنع بعض حقوقها حتى ضجرت ، فاختلعت نفسها ، فهذا الفعل منه حرام ، ولكن الخلع نافذ ، قال الله سبحانه وتعالى : ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ) .

                                                                            والمراد منه أن يكون عند الرجل امرأة يمقتها [ ص: 195 ] فيضارها بسوء المعاشرة ليضطرها إلا الافتداء ، ومعنى العضل : التضييق والمنع .

                                                                            والخلع مباح بلا كراهية أن تكره المرأة صحبة الزوج ، ولا يمكنها القيام بأداء حقوقه ، فتتحرج ، فتختلع نفسها ، ولو اختلعت نفسها بلا سبب ، فجائز مع الكراهية لما فيه من قطع سبب الوصلة .

                                                                            روي عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة سألت زوجها طلاقا في غير ما بأس ، فحرام عليها رائحة الجنة" .

                                                                            وروي عن معرف بن واصل ، عن محارب بن دثار ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق" .

                                                                            ويروى أيضا عن محارب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أبغض الحلال إلى الله الطلاق" .

                                                                            وفي الحديث دليل على أنه يجوز للزوج أن يخالعها على جميع ما أعطاها ، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه جائز على ما تراضيا عليه قل [ ص: 196 ] ذلك أم كثر ، وذهب قوم إلى أنه لا يزيد على ما ساق إليه ، وقال سعيد بن المسيب : لا يأخذ منها جميع ما أعطاها ، بل يترك شيئا .

                                                                            وفيه دليل على أن الخلع في حال الحيض ، وفي طهر جامعها فيه لا يكون بدعيا ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في مخالعتها من غير أن تعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع أحوالها لأشبه أن يتعرف الحال في ذلك ، واتفق أهل العلم على أنه إذا طلقها على مال ، فقبلت ، فهو طلاق بائن ، واختلفوا في الخلع ، فذهب جماعة إلى أنه فسخ ، وليس بطلاق ، ولا ينتقص به العدد ، وهو قول عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وبه قال عكرمة ، وطاوس ، وهو أحد قولي الشافعي ، وإليه ذهب أحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، احتجوا بقول الله سبحانه وتعالى : ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ) ، ثم ذكر بعده الخلع ، فقال : ( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ) ، ثم ذكر الطلقة الثالثة ، فقال : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره ) ، ولو كان الخلع طلاقا ، لكان الطلاق أربعا ، وذهب الأكثرون إلى أن الخلع تطليقة بائنة ينتقص به عدد الطلاق ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وبه قال الحسن ، والنخعي ، وعطاء ، وسعيد بن المسيب ، وشريح ، والشعبي ، ومجاهد ، ومكحول ، والزهري ، وإليه ذهب مالك ، وسفيان الثوري ، والأوزاعي ، والشافعي في أصح قوليه ، وأصحاب الرأي .

                                                                            واختلفوا في عدة المختلعة بعد الدخول ، فذهب أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن بعدهم ، وعامة الفقهاء إلى أن عدتها ، وعدة [ ص: 197 ] المطلقة سواء ثلاثة قروء ، وقال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم : " عدة المختلعة حيضة واحدة" ، لما روي عن عمرو بن مسلم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد بحيضة ، قال إسحاق : إن ذهب ذاهب إلى هذا ، فهو مذهب قوي .

                                                                            واختلفوا في المختلعة إذا طلقها زوجها في العدة هل يقع أم لا ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقع ، قال ابن عباس ، وابن الزبير : لا يلحق المختلعة الطلاق في العدة ، لأنه طلق ما لا يملك ، وهو قول الشافعي ، وذهب قوم إلى أنه يلحقها صريح الطلاق ، وهو قول أصحاب الرأي ، وقالوا : لو قال لها : أنت بائن ، ونوى الطلاق ، أو طلقها على مال ، أو أرسل ، فقال : كل امرأة لي طالق ، قالوا : لا يقع .

                                                                            وفي الرجعية يقع الطلاق بكل حال بالاتفاق ، قال ابن عباس في رجل قال لامرأته : إذا جاء رمضان فأنت طالق ثلاثا ، وبينه وبين رمضان ستة أشهر ، فندم .

                                                                            قال ابن عباس : يطلق واحدة ، فتنقضي عدتها قبل أن ينقضي رمضان ، فإذا مضى خطبها إن شاءت .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية