الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب استبراء الأمة المسبية والمشتراة .

                                                                            2394 - أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن الميربندكشائي، أنا أبو سهل السجزي، أنا أبو سليمان الخطابي، أنا أبو بكر بن داسة، [ ص: 319 ] أنا أبو داود السجستاني، نا عمرو بن عون، أنا شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة".

                                                                            قال الإمام : في هذا الحديث أنواع من الفقه ، منها : أن الزوجين إذا سبيا ، أو أحدهما ، يرتفع النكاح بينهما ، ولولا ذلك ، لكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح للسابي وطء المسبية بعد أن تضع الحمل ، أو تحيض حيضة من غير فصل ، وفيهن ذوات أزواج ، ولم يختلف أهل العلم في سبي أحد الزوجين دون الآخر ، أنه يوجب ارتفاع النكاح بينهما ، واختلفوا فيما لو سبيا معا ، فذهب جماعة إلى ارتفاع النكاح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح وطأهن بعد وضع الحمل ، أو مرور حيضة بها من غير فصل بين ذات زوج ، وغيرها ، وبين من سبيت منهن مع الزوج ، أو وحدها ، وكان في ذلك السبي كل هذه الأنواع ، فدل أن الحكم في ذلك واحد ، وإلى هذا ذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور .

                                                                            وقال أصحاب الرأي : إذا سبيا معا ، فهما على نكاحهما . [ ص: 320 ] .

                                                                            وروي عن أبي علقمة الهاشمي ، عن أبي سعيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث يوم حنين بعثا إلى أوطاس ، فلقوا العدو ، فقاتلوهم ، وظهروا عليهم ، وأصابوا سبايا ، فكأن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : ( والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ) ، أي : فهن لكم حلال ، إذا انقضت عدتهن .

                                                                            والمراد من المحصنات في هذا الموضع : المتزوجات ، فدل إباحتهن للموالي على ارتفاع النكاح بينهن ، وبين أزواجهن بالسبي ، وتأول ابن عباس الآية على الأمة المزوجة يشتريها رجل ، وجعل بيعها طلاقا ، وأحل للمشتري وطأها ، وعامة أهل العلم على خلافه ، ولم يجعلوا بيع الأمة ذات الزوج طلاقا .

                                                                            وفيه أن استحداث الملك في الأمة يوجب الاستبراء ، فلا يجوز لمن يملك جارية وطؤها ما لم يمض زمان الاستبراء ، سواء كانت بكرا ، أو ثيبا ، تملكها من رجل أو امرأة ، وكذلك المكاتبة إذا عجزت ، والمبيعة إذا عادت إلى بائعها بإقالة ، أو رد بعيب ، فلا يحل وطؤها إلا بعد الاستبراء ، وقال القاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله : لا يجب استبراء غير البالغة ، وهو قول الليث بن سعد ، وقال ابن عمر : إذا وهبت الوليدة التي توطأ ، أو بيعت ، أو أعتقت ، فليستبرأ رحمها بحيضة ، ولا تستبرأ العذراء .

                                                                            وفيه ، أن وطء الحبالى من السبايا لا يجوز ، وقد روي عن رويفع بن ثابت الأنصاري ، قال : قال رسول [ ص: 321 ] الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره" .

                                                                            يعني : إتيان الحبالى ، " ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنما حتى يقسم" .

                                                                            قال الإمام : اتفق أهل العلم على تحريم الوطء على المالك في زمان الاستبراء ، واختلفوا في المباشرة سوى الوطء ، فلم ير الحسن بأسا أن يقبلها ويباشرها ، وقال عطاء : لا بأس أن يصيب من جاريته الحامل ما دون الفرج ، قال الله عز وجل : ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) ، وذهب قوم إلى تحريمها كالوطء ، وهو قول الشافعي ، وله قول آخر : إنها تحرم في المشتراة ، ولا تحرم في المسبية ، لأن المشتراة ربما تكون أم ولد الغير ، فلم يملكها المشتري ، والحمل في المسبية لا يمنع الملك .

                                                                            وفيه بيان أن استبراء الحامل يكون بوضع الحمل ، واستبراء الحائل إن كانت ممن تحيض بحيضة بخلاف العدة تكون بالأطهار ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هناك في حديث ابن عمر : " يطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" ، فجعل العدة بالأطهار ، والاستبراء بالحيض .

                                                                            وفيه بيان أنه لا بد من حيضة كاملة بعد حدوث الملك ، حتى لو اشتراها [ ص: 322 ] وهي حائض لا تعتد بتلك الحيضة .

                                                                            وقال الحسن : إذا اشتراها حائضا أجزأت عن الاستبراء ، وإن كانت الأمة ممن لا تحيض ، فاستبراؤها بمضي شهر .

                                                                            وقال الزهري : بثلاثة أشهر .

                                                                            وفيه مستدل لمن ذهب إلى أن الحامل لا تحيض ، وأن الدم الذي تراه الحامل لا يكون حيضا ، وإن كان في حينه وعلى وصفه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحيض دليل براءة الرحم ، واختلف أهل العلم فيه ، فذهب قوم إلى أن الحامل لا تحيض ، ولا يجوز لها ترك الصوم والصلاة إذا رأت الدم على الحبل كالمستحاضة ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وإبراهيم ، والحكم بن عتيبة ، وهو قول أصحاب الرأي .

                                                                            وذهب قوم إلى أنها تحيض ، فعليها ترك الصلاة ، والصوم ، في حال رؤية الدم ، ويجتنبها زوجها كما في حال الحيال ، يروى ذلك عن عائشة ، وهو قول الزهري ، والشعبي ، والأوزاعي ، ومالك ، وظاهر مذهب الشافعي ، غير أن العدة لا تنقضي به ، لأن الحيض جعل علما لبراءة الرحم من طريق الظاهر ، فإذا وجد ما هو أقوى من الدلالة ، سقط اعتباره ، حتى لو كانت تعتد بالأقراء ، فزنت وحبلت من الزنى ، ثم كانت ترى الدم على حمل الزنى يحسب ذلك عن العدة ، وقال الحسن : إذا رأت الدم عند الطلق يوما أو يومين ، فهو نفاس .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية