الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الجمع بين الطلقات الثلاث وطلاق البتة .

                                                                            2353 - أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم.

                                                                            ح وأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، ومحمد بن أحمد العارف، قالا: أنا أبو بكر الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن عبد الله بن علي بن السائب، عن نافع بن عجير بن عبد الله بن يزيد، أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، ووالله ما أردت إلا واحدة.

                                                                            فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والله ما أردت إلا واحدة؟".

                                                                            فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة.

                                                                            فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلقها الثانية في زمن عمر، والثالثة في زمن عثمان رضي الله عنهما.
                                                                            [ ص: 210 ] .

                                                                            وروي عن الزبير بن سعيد، عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة، عن أبيه، عن جده، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني طلقت امرأتي البتة، فقال: "ما أردت بها؟"، قلت: واحدة.

                                                                            قال: "والله؟"، قلت: والله، قال: "فهو ما أردت".


                                                                            ومعنى قوله : " بتة" ، أي : قاطعة ، وأصل البت : القطع .

                                                                            يقال : صدقة بتة بتلة ، أي منقطعة عن جميع الأملاك .

                                                                            قال الإمام : في هذا الحديث فوائد منها ما استدل به الشافعي على أن الجمع بين الطلقات الثلاث مباح ، ولا يكون بدعة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ركانة : " ما أردت بها ؟" ، ولم ينهه أن يريد أكثر من واحدة ، وهو قول الشافعي ، وأحمد .

                                                                            وذهب بعضهم إلى أنه لو جمع بين طلقتين ، أو ثلاث طلقات ، يكون بدعة ، وهو قول مالك ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي .

                                                                            واختلف هؤلاء فيما لو طلق امرأته الحامل ثلاثا ، فذهب أكثرهم إلى أنه لا يكون بدعيا ، واختلف فيه أصحاب الرأي ، فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : يكون بدعيا إلا أن يفرقها على الشهور ، فيوقع في كل شهر واحدة ، وقال محمد بن الحسن : لا يوقع على الحمل إلا واحدة ، ويترك الثانية حتى تضع الحمل . [ ص: 211 ] .

                                                                            وفيه دليل على أن طلاق البتة واحدة إذا لم يرد أكثر منها ، وأنها رجعية ، وهو قول عمر بن الخطاب ، وبه قال عطاء ، وسعيد بن جبير ، وإليه ذهب الشافعي ، وقال : إذا نوى بها اثنتين أو ثلاثا ، فهو ما نوى .

                                                                            قال شريح : أما الطلاق فسنة ، فأمضوه ، وأما البتة فبدعة ، فدينوه .

                                                                            وذهب جماعة إلى أنه واحدة بائنة ، إن لم يكن له نية ، وإن نوى ثلاثا ، فهو ثلاث ، وإن نوى اثنتين ، لم يكن إلا واحدة ، وهو قول الثوري ، وأصحاب الرأي .

                                                                            وذهب جماعة إلى أنها ثلاث طلقات ، وهو قول علي بن أبي طالب ، ويروى أيضا عن ابن عمر ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وإليه ذهب مالك ، وابن أبي ليلى ، والأوزاعي ، وقال أحمد : أخشى أن يكون ثلاثا ، ولا أجترئ أن أفتي به .

                                                                            وروي عن علي أنه كان يجعل الخلية والبرية ، والبائنة ، والبتة ، والحرام ، ثلاثا .

                                                                            قال الإمام : وفي الحديث دليل على أن من طلق زوجته ونوى عددا أنه يقع ما نوى ، سواء طلقها بصريح لفظ الطلاق أو بالكناية ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإنما لامرئ ما نوى" .

                                                                            يروى ذلك عن عروة بن الزبير ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبي عبيد .

                                                                            وذهب جماعة إلى أنه إذا نوى بصريح لفظ الطلاق أكثر من واحدة لا يقع [ ص: 212 ] إلا واحدة ، وهو قول الثوري ، والأوزاعي ، وأحمد ، وأصحاب الرأي ، وقال الثوري ، وأصحاب الرأي : يجوز إرادة الثلاث بالكناية ، ولو أراد بها اثنتين لا تقع إلا واحدة بائنة .

                                                                            وصرائح ألفاظ الطلاق عند الشافعي ثلاثة : لفظ الطلاق ، والفراق ، والسراح ، يقع بها الطلاق من غير نية ، والكناية : كل لفظ ينبئ عن الفرقة ، مثل قوله : أنت خلية ، أو برية ، أو بتة أو بتلة ، أو حرام ، أو حرة ، أو قال : حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، أو قال : اعتدي ، أو استبرئي رحمك ، أو لا ملك لي عليك ، أو قال : قومي ، أو اخرجي ، أو اذهبي ، أو تقنعي ، أو تستري ، ونحو ذلك ، يقع بها الطلاق إذا نوى ، وإن لم ينو ، فهو لغو ، وقال إبراهيم : إذا قال : لا حاجة لي فيك نيته ، وطلاق كل قوم بلسانهم ، وقال الحسن : إذا قال : الحقي بأهلك نيته .

                                                                            وقال الزهري : إذا قال : ما أنت بامرأتي نيته ، وإن نوى طلاقا ، فهو ما نوى ، [ ص: 213 ] ولا تنقطع الرجعة بشيء منها إن كان بعد الدخول ، قياسا على صريح لفظ الطلاق عند الشافعي ، إنما تنقطع بذكر عوض ، أو استيفاء عدد الثلاث .

                                                                            وقال ابن عمر في الخلية ، والبرية : إن كل واحد منهما ثلاث طلقات ، وبه قال مالك في المدخول بها ، وقال : يدين في غير المدخول بها ، وكذلك قال في البائنة .

                                                                            وقال الزهري : إذا قال : برئت منك ، وبرئت مني ، ثلاث طلقات بمنزلة البتة ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن الكنايات أكثرها تقطع الرجعة .

                                                                            وإذا حدث الرجل نفسه بالطلاق ، ولم يتلفظ ، لا يقع به شيء عند أكثر أهل العلم ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ، ما لم تتكلم أو تعمل به" .

                                                                            وإلى هذا ذهب عطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، وبه قال الثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال الزهري : إذا عزم على ذلك وقع الطلاق ، وإن لم يتلفظ به ، وهو قول مالك ، واتفقوا على أنه لو عزم على الظهار ، لم يلزمه حكمه ، ولو حدث نفسه في الصلاة ، لم تبطل صلاته ، ولو كان حديث النفس بمنزلة الكلام ، لبطلت به الصلاة ، ولو قال لها : أنت طالق هكذا ، وأشار بثلاث أصابع ، كان ثلاثا ، فإن أشار بإصبعين ، فهو اثنتان ، قاله الشعبي ، وقتادة ، والآخرون . [ ص: 214 ] .

                                                                            ولو قال رجل لامرأته : أنت طالق عشرا أو مائة ، تقع الثلاث .

                                                                            سأل رجل ابن مسعود ، فقال : طلقت امرأتي ثماني تطليقات ، فقال ابن مسعود : فماذا قيل لك ؟ قال : قيل لي : إنها قد بانت منك ، قال ابن مسعود : " أجل ، من طلق كما أمره الله فقد بين الله له ، ومن لبس على نفسه لبسا ، جعلنا لبسه به ، لا تلبسوا على أنفسكم ، ونتحمله عنكم ، هو كما تقولون" .

                                                                            وقال رجل لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة طلقة ، فماذا ترى علي ؟ قال ابن عباس : " طلقت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت آيات الله بها هزوا" .

                                                                            أما إذا كتب بطلاق امرأته ، فإن كان أخرس وقع ، وإن كان ناطقا ، اختلف أهل العلم فيه ، فذهب جماعة إلى أنه يقع به الطلاق في حق الغائب ، وإن لم ينو ، وهو قول أصحاب الرأي ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وقال مالك ، والأوزاعي : إذا وجه الكتاب إليها وقع ، وله أن يرجع قبل أن يوجه الكتاب إليها ، وعند الشافعي : إن [ ص: 215 ] نوى مع الكتابة ، يقع به الطلاق ، وإن لم ينو ، فلا يقع ، وذهب بعض أصحابه إلى أن الكناية يقع بها الطلاق إذا نوى في حق الحاضرة ، كما يقع في حق الغائبة ، وفرق بعضهم بين أن يكتب في بياض أو على الأرض ، فأوقعه إذا كتب فيما يكتب عليه عادة من رق ، أو بياض ، أو لوح ، وأبطله إذا كتب على الأرض .

                                                                            قال الإمام : وفي حديث ركانة دليل على أن يمين الحكم لا تحسب قبل استحلاف الحاكم ، فإن ركانة ، لما قال : والله ما أردت إلا واحدة أعاد إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله ما أردت إلا واحدة ، فحلفه بعد ما كان حلف من قبل تحليفه ، وفيه أن اليمين باسم الله سبحانه وتعالى كافية على التجريد من غير أن يضم إليه شيئا من الصفات ، ويجوز تعليق الطلاق على الشروط ، وكذلك العتاق ، قال نافع : طلق رجل امرأته البتة إن خرجت ، فقال ابن عمر : إن خرجت ، فقد بتت منه ، وإن لم تخرج ، فليس بشيء ، وقال قتادة : إذا قال : إذا حملت ، فأنت طالق ثلاثا ، يغشاها عند كل طهر مرة ، فإن استبان حملها ، فقد بانت .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية