الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2352 - أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم.

                                                                            ح وأنا أحمد بن عبد الله الصالحي، ومحمد بن أحمد العارف، قالا: أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم، وسعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن، مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر، وأبو الزبير يسمع، فقال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ فقال ابن عمر: طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "مره فليراجعها، فإذا طهرت، فليطلق أو ليمسك".

                                                                            قال ابن عمر، وقال الله عز وجل: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن، أو لقبل عدتهن.

                                                                            الشافعي يشك.

                                                                            هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم، عن هارون بن عبد الله، عن حجاج [ ص: 204 ] بن محمد، عن ابن جريج، وقال: قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن".

                                                                            قال الإمام رحمه الله : فيه دليل على أن الطلاق في حال الحيض بدعة ، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإن شاء طلق قبل أن يمس" ، وفي أمره بمراجعتها دليل على أن الطلاق واقع مع كونه بدعيا ، ولولاه لم يحتج إلى المراجعة ، قال يونس بن جبير في هذا الحديث : قلت لابن عمر : فهل عد ذلك طلاقا ؟ ، قال : فمه أرأيت إن عجز واستحمق ؟ معناه : أرأيت إن عجز واستحمق ، أيسقط عنه الطلاق حمقه أو يبطله عجزه ؟ فهذا من باب محذوف الجواب المدلول عليه بالفحوى .

                                                                            وروي أن عبد الله بن عمر ، كان إذا سئل عن ذلك ، قال لأحدهم : إن كنت طلقتها ثلاثا ، فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك ، ولو طلقت مرة أو مرتين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا . [ ص: 205 ] .

                                                                            وفيه دليل على أن من طلق زوجته المدخول بها في حال الحيض ، أو في طهر جامعها فيه ، وقد بقي من عدة طلاقها شيء ، أنه يؤمر بمراجعتها حتى يطلقها بعد إن شاء في طهر لم يجامعها فيه ، وهذه المراجعة استحباب ، وقال مالك : يجب عليه المراجعة ، وإذا طلقها في الحيض ، وراجعها جاز له أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس ، كما رواه يونس بن جبير ، وأنس بن سيرين ، وغيرهما ، عن ابن عمر .

                                                                            وأما ما رواه نافع ، عن ابن عمر عمر " ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر" ، فاستحباب استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا تكون مراجعته إياها للطلاق ، كما يكره النكاح للطلاق ، بل يمسها في الطهر الأول ليتحقق معنى المراجعة ، ثم لم يكن له الطلاق بعده ، لكونها في طهر جامعها فيه ، فيتأخر الطلاق إلى الطهر الثاني .

                                                                            وفي قوله في رواية سالم : " ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا" ، دليل على أنه لا بدعة في طلاق الحامل ، فإن طلقها في حال رؤية الدم ، أو بعد الجماع ، فجائز ، وكذلك لو طلق غير المدخول بها في حال الحيض ، أو طلق الآيسة ، أو الصغيرة التي لم تحض قط بعد ما جامعها ، لا يكون بدعيا ، إنما البدعة في طلاق امرأة يلزمها العدة بالأقراء ، فإن طلق هذه في حيض أو نفاس ، أو في طهر مسها فيه ، يكون بدعيا ، وإن طلقها في طهر لم يمسها فيه يكون سنيا .

                                                                            ولو قال لها : أنت طالق للسنة ، فإن كانت في طهر لم يمسها فيه ، يقع الطلاق في الحال ، وإن كانت في حيض أو نفاس ، فلا يقع حتى تطهر ، فإذا طهرت ، طلقت سواء اغتسلت أو لم تغتسل ، وإن كانت في طهر جامعها فيه ، فلا يقع حتى تحيض ، ثم تطهر . [ ص: 206 ] .

                                                                            ولو قال : أنت طالق للبدعة ، فإن كانت في حيض أو نفاس ، أو طهر جامعها فيه ، يقع في الحال ، وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه ، لا يقع حتى يجامعها الزوج ، أو تحيض .

                                                                            ولو قال لها : أنت طالق للسنة والبدعة ، أو لا للسنة ، ولا للبدعة ، يقع في الحال في أي حالة كانت ، فأما إذا قال لغير المدخول بها ، أو للصغيرة ، أو الآيسة ، أو للحامل : أنت طالق للسنة ، أو للبدعة ، أو لا للسنة والبدعة ، أو لا للسنة ولا للبدعة ، يقع في الحال ، لأنه لا سنة في طلاقهن ، ولا بدعة ، فيلغو ذكرها ، والطلاق بالعوض لا يكون بدعيا في أي حال كان .

                                                                            وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" .

                                                                            دليل أن الأقراء التي أمر النساء أن يعتددن بها هي الأطهار دون الحيض ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن وقت الطلاق هو زمان الطهر ، ثم قال : " تلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" ، أي فيها النساء ، وأراد به قوله سبحانه وتعالى : ( فطلقوهن لعدتهن ) ، أي : في وقت عدتهن ، وهذا قول زيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمر ، وعائشة .

                                                                            قالت عائشة : " هل تدرون ما الأقراء ؟ إنما الأقراء الأطهار" ، وهذا قول الفقهاء السبعة ، وسالم بن عبد الله ، والزهري ، وإليه ذهب مالك ، والشافعي .

                                                                            وذهب جماعة إلى أن الأقراء هي الحيض ، يروى ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وهو قول الحسن البصري ، وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، وأصحاب الرأي . [ ص: 207 ] .

                                                                            وأصل هذا الاختلاف أن الله سبحانه وتعالى ، قال : ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) ، والقروء : واحدها قرء ، ويجمع أقراء ، وهو من الأضداد يقع على الطهر والحيض جميعا ، والأصل في القرء : الوقت ، قال الشاعر :


                                                                            كما هبت لقارئها الرياح



                                                                            أي : لوقتها ، يقال : قد أقرأت المرأة : إذا دنا حيضها ، وأقرأت : إذا دنا طهرها .

                                                                            واحتج من ذهب إلى أنها الحيض بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لامرأة : " دعي الصلاة أيام أقرائك" ، وإنما تدع المرأة الصلاة أيام حيضها .

                                                                            ومن قال : هي الأطهار يحتج من طريق اللغة بقول الشاعر : [ ص: 208 ]

                                                                            مورثة عزا وفي الحي رفعة     لما ضاع فيه من قروء نسائكا



                                                                            وأراد بها الأطهار .

                                                                            وفائدة الخلاف تظهر في أن المعتدة إذا شرعت في الحيضة الثالثة تنقضي عدتها على قول من يجعلها أطهارا ، ويحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءا .

                                                                            قالت عائشة : " إذا طعنت المطلقة في الدم من الحيضة الثالثة ، فقد برئت منه" .

                                                                            وقال ابن عمر " إذا طلق الرجل امرأته ، فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، فقد برئت منه ، وبرئ منها ، ولا ترثه ولا يرثها" .

                                                                            ومن ذهب إلى أن الأقراء هي الحيض ، يقول : لا يحسب بقية الطهر الذي وقع فيه الطلاق قرءا ، ولا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الثالثة ، ومنهم من يقول : حتى تغتسل إن لم يبلغ دمها أكثر الحيض ، وهو قولأصحاب الرأي ، ويروى عن علي شرط الاغتسال .

                                                                            واتفقوا على أن الطلاق إذا كان في حال الحيض أنه لا يحسب بقية الحيض قرءا . [ ص: 209 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية