الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب الظهار.

                                                                            قال الله تعالى: ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ) إلى قوله: ( وزورا ) ، أي: كذبا، سمي زورا، لأنه ميل عن الحق، ومنه قوله عز وجل: ( تزاور عن كهفهم ) ، أي: تميل.

                                                                            وقال الله تعالى: ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ) . [ ص: 241 ] .

                                                                            2364 - أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، نا أحمد بن علي الكشميهني، نا علي بن حجر، نا إسماعيل بن جعفر، عن محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار، أن خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت، فتظاهر منها، وكان به لمم، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أوسا تظاهر مني، وذكرت أن به لمما، وقالت: والذي بعثك بالحق ما جئتك إلا رحمة له، إن له في منافع، فأنزل الله القرآن فيهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مريه فليعتق رقبة".

                                                                            قالت: والذي بعثك بالحق ما عنده رقبة، ولا يملكها، قال: "مريه فليصم شهرين متتابعين"، قالت: والذي بعثك بالحق لو كلفته ثلاثة أيام ما استطاع.

                                                                            قال: "مريه فليطعم ستين مسكينا"، قالت: والذي بعثك بالحق ما يقدر عليه.

                                                                            قال: "مريه فليذهب إلى فلان بن فلان، فقد أخبرني أن عنده شطر تمر صدقة، فليأخذه صدقة عليه، ثم ليتصدق به على ستين مسكينا"
                                                                            [ ص: 242 ] قال أبو سليمان الخطابي : ليس معنى " اللمم" ها هنا : الخبل ، والجنون ، ولو كان به ذلك ، ثم ظاهر في تلك الحال ، لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى " اللمم" ها هنا : الإلمام بالنساء ، وشدة الحرص ، والتوقان إليهن .

                                                                            قال الإمام : هذا كما روي عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر في حديث الظهار ، قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان ، خفت أن أصيب من امرأتي شيئا ، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تحدثني ذات ليلة ، إذ تكشف لي منها شيء ، فلم ألبث أن وقعت عليها ، فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته ، فذكر الحديث ، وفيه : " فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا" . [ ص: 243 ] .

                                                                            قال الإمام : صورة الظهار أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فإذا عاد ، يلزمه الكفارة ، ولا يجوز له أن يقربها ما لم يخرج الكفارة ، وهي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد ، فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع ، فإطعام ستين مسكينا .

                                                                            واختلف أهل العلم في العود ، فذهب قوم إلى أن الكفارة تجب بنفس الظهار ، والمراد من العود : هو العود إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من نفس الظهار ، وهو قول مجاهد ، والثوري ، وقال قوم : هو إعادة لفظ الظهار وتكريره ، وقال قوم : هو الوطء ، وبه قال الحسن ، وطاوس ، والزهري ، وقال قوم : هو العزم على الوطء ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي ، وعند الشافعي ، العود : هو أن يمسكها عقب الظهار زمانا يمكنه أن يفارقها ، فلم يفعل ، فإن طلقها عقيب الظهار في الحال ، أو مات أحدهما في الوقت ، فلا كفارة ، لأن العود للقول هو المخالفة ، وقصده بالظهار التحريم ، فإذا أمسكها على النكاح ، فقد خالف قوله ، فيلزمه الكفارة ، وفي العربية لما قالوا أي : فيما قالوا ، وفي نقض ما قالوا . [ ص: 244 ] .

                                                                            ولو شبهها بعضو من أعضاء الأم سوى الظهر ، فقال : أنت علي كيد أمي ، أو كبطن أمي ، أو قال : يدك أو بطنك ، علي كظهر أمي ، أو كبطن أمي ، فهو ظهار على أصح قولي الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن شببها ببطن الأم ، أو فرجها ، أو فخذها ، فهو ظهار كالظهر ، وإن شبهها بعضو آخر سواها ، فليس بظهار ، ولو قال : أنت علي كعين أمي ، أو كروح أمي ، فهو ظهار ، إلا أن يريد به الكرامة ، فلا يكون ظهارا ، ولو قال : كأمي ، أو مثل أمي ، فليس بظهار إلا أن يريد به الظهار .

                                                                            ولو قال : أنت علي كظهر جدتي ، أو ابنتي ، أو أختي ، أو عمتي ، أو خالتي ، فظهار ، وكذلك إن شبهها بامرأة محرمة عليه بسبب الرضاع على أصح القولين ، فإن كانت محرمة بالصهرية ، فليس بالظهار على الأصح كالملاعنة .

                                                                            قال الإمام : في حديث سلمة بن صخر : " ظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان" .

                                                                            ففيه دليل على أن الظهار المؤقت ظهار ، وهو قول أصحاب الرأي ، وأصح قولي الشافعي .

                                                                            وذهب قوم إلى أنه لا يجب به شيء ، وهو قول مالك ، والليث ، وابن أبي ليلى .

                                                                            ثم اختلف قول الشافعي في أنه إذا ظاهر مؤقتا ، بأن ظاهر يوما ، أو شهرا ، أن التأقيت هل يسقط أم لا ؟ فقال في قول : يتأبد ، كما لو طلقها مدة [ ص: 245 ] يتأبد ، والثاني : لا يتأبد ، حتى لو طلقها في الوقت ، ثم راجعها بعد مضي المدة ، فأمسكها ، ووطئها ، لا كفارة عليه .

                                                                            قال الإمام : وفي حديث أوس بن الصامت دليل على أن المظاهر إذا جامع قبل أن يكفر لا يجب عليه إلا كفارة واحدة ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال سفيان ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق .

                                                                            وقال بعضهم : إذا واقعها قبل أن يكفر ، فعليه كفارتان ، وهو قول عبد الرحمن بن مهدي .

                                                                            ولو ظاهر من أربع نسوة بكلمة واحدة ، فعليه أربع كفارات على أظهر قولي الشافعي ، كما لو طلقهن ، يقع على كل واحدة طلقة .

                                                                            وقال في القديم : لا يجب إلا كفارة واحدة ، وهو قول ربيعة ، ومالك ، ويروى ذلك عن عروة بن الزبير ، ولو ظاهر من امرأة واحدة مرارا قبل أن يكفر ، فإن قالها منفصلة ، أو أراد بكل واحدة ظهارا آخر ، فعليه كفارات ، وإن قالها متتابعا ، وقال : أردت ظهارا واحدا ، فعليه كفارة واحدة ، وقال مالك : لا يجب إلا كفارة واحدة إلا أن يكفر عن الأول ، ثم يظاهر ثانيا ، فعليه كفارة أخرى .

                                                                            ومن ظاهر من أمته ، فلا كفارة عليه ، كما لو طلقها لا يقع ، وعند مالك يلزمه الكفارة إذا أراد أن يمسها . [ ص: 246 ] .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية