الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            باب عدة المتوفى عنها زوجها والإحداد .

                                                                            2389 - أخبرنا أبو الحسن الشيرزي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، أنها أخبرته هذه الأحاديث الثلاثة، قالت زينب: دخلت على أم حبيبة، زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت به جارية، ثم مست به بطنها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق [ ص: 307 ] ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا"

                                                                            قالت زينب: وسمعت أمي أم سلمة، تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا"، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول".

                                                                            قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، دخلت حفشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبا، ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة حمار، أو شاة، أو طير، فتفتض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج، فتعطى بعرة، فترمي بها، ثم تراجع بعد ذلك ما شاءت من طيب أو غيره ".

                                                                            حديث متفق على صحته ، أخرجه محمد ، عن عبد الله بن يوسف ، [ ص: 308 ] وأخرجه مسلم ، عن يحيى بن يحيى ، كلاهما عن مالك ، وقال في حديث أم حبيبة : ثم مست بعارضيها .

                                                                            قال الإمام : معنى الإحداد : هو الامتناع عن الزينة ، يقال : أحدت المرأة على زوجها ، فهي محد ، وحدت أيضا ، وحدود الله : ما يجب الامتناع دونها ، ويسمى الحاجب حدادا ، لأنه يمنع الناس من الدخول .

                                                                            وقولها : " فتفتض به" ، فسره القتبي ، وقال : هو من فضضت الشيء إذا كسرته ، أو فرقته ، ومنه قول سبحانه وتعالى : ( لانفضوا من حولك ) ، أي تفرقوا : وأرادت أنها تكسر ما كانت فيه من العدة بدابة ، أو طائر ، تمسح بتلك الدابة قبلها ، وتنبذها ، فقلما تعيش الدابة .

                                                                            وقال الأخفش : تفتض مأخوذ من الفضة ، أي تتطهر به ، شبه ذلك بالفضة لنقائها .

                                                                            ورواه الشافعي " فتقبص" بالقاف ، والباء ، والصاد غير معجمة ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع ، والقبض بضاد معجمة : الأخذ بالكف كلها .

                                                                            والحفش : البيت الصغير .

                                                                            ومعنى رميها بالبعرة : كأنها تقول : كان جلوسها في البيت ، وحبسها نفسها سنة على زوجها أهون عليها من رمي هذه البعرة ، أو هو يسير في جنب ما يجب من حق الزوج .

                                                                            وكانت عدة المتوفى عنها زوجها في الابتداء حولا كاملا ، كما قال الله سبحانه وتعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ) ، أي : فليوصوا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ، أي : متعوهن متاعا ، ولا تخرجوهن إلى الحول ، فنسخ بأربعة أشهر وعشر ، قال الله عز وجل : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر [ ص: 309 ] وعشرا ) .

                                                                            والإحداد واجب عليها في مدة عدة الوفاة عند عامة أهل العلم ، وهو أن تمتنع من الزينة والطيب ، فلا يجوز لها تدهين رأسها بأي دهن كان ، سواء كان فيه طيب ، أو لم يكن ، لما فيه من الزينة ، ولها تدهين جسدها بدهن لا طيب فيه ، فإن كان فيه طيب فلا يجوز ، ولا يجوز لها أن تكتحل بكحل فيه طيب ، ولا فيه زينة ، كالكحل الأسود .

                                                                            ولا بأس بالكحل الفارسي ، لأنه لا زينة فيه ، بل هو يزيد العين مرها وقبحا .

                                                                            فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة ، فرخص فيه كثير من أهل العلم ، منهم سالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، والنخعي ، وإليه ذهب مالك ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : تكتحل به ليلا ، وتمسحه بالنهار ، وكذلك الدمام : وهو أن تطلي حوالي عينيها بصبر ، ففيه زينة ، لا يجوز لها ذلك إلا أن يقع ضرورة ، فتفعله ليلا ، وتمسحه بالنهار ، روي عن أم سلمة ، قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة ، وقد جعلت علي صبرا ، فقال : " ما هذا يا أم سلمة ؟" ، فقالت : إنما هو صبر ليس فيه طيب ، قال : " إنه يشب الوجه ، فلا تجعليه إلا بالليل ، وتنزعيه بالنهار ، ولا تمتشطي بالطيب ، ولا بالحناء ، فإنه خضاب" ، قلت : بأي شيء أمتشط [ ص: 310 ] يا رسول الله ؟ قال : " بالسدر تغلفين به رأسك" .

                                                                            وقوله : " يشب الوجه" ، أي : يوقده ، ويلونه ، ويحسنه ، ورجل مشبوب : إذا كان أسود الشعر ، أبيض الوجه .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية