الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              ذكر صلاة الطالب والمطلوب

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: كل من أحفظ عنه من أهل العلم يقول: إن المطلوب يصلي على دابته. كذلك قال عطاء بن أبي رباح، والأوزاعي، [ ص: 24 ] والشافعي، وأحمد، وأبو ثور. وإذا كان طالبا نزل فصلى بالأرض.

                                                                                                                                                                              وقال الشافعي كذلك إلا في حال واحد، وذلك أن يقل الطالبون عن المطلوبين وينقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم، فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد روينا عن عبد الله بن أنيس: أنه صلى وهو يتوجه نحو عرفة يطلب سفيان بن نبيح الهذلي وأنه صلى العصر يومئ، وقد ذكرت إسناده في غير هذا الكتاب، هو من حديث:

                                                                                                                                                                              2351 - محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، عن ابن عبد الله بن أنيس، عن أبيه.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: وقد ذكرنا الأخبار التي رويت في صلاة الخوف. وقد اختلف أهل العلم فيما يجب أن يقال به فيها؛ فكان مالك يقول بحديث يزيد بن رومان الذي:

                                                                                                                                                                              2352 - أخبرناه الربيع، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أنا مالك، عن [ ص: 25 ] يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات عن من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.

                                                                                                                                                                              (2362) وحدثنا علي، عن القعنبي ، قال: قال مالك: وحديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات أحب ما سمعت إلي من صلاة الخوف.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: ثم رجع مالك عن هذا - فيما حكاه ابن القاسم، وابن وهب، وعبد الملك عنه - إلى حديث يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات .

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول: حديث صالح بن خوات أوفق ما يثبت منها لظاهر كتاب الله. ومذهب أبي ثور كنحو من مذهب الشافعي . فأما أصحاب الرأي فإنهم قالوا: إذا كان الإمام مواقف العدو في أرض الحرب فحضرت الصلاة، فإنه تقف طائفة من الناس بإزاء العدو، ويفتتح الصلاة بطائفة معه، فيصلي بالطائفة الذين معه ركعة وسجدتين، وإذا فرغ منها انفتل الطائفة التي معها الإمام من غير أن يتكلموا [ ص: 26 ] ولا يسلموا، فيقفون بإزاء العدو، وتأتي الطائفة الأخرى الذين كانوا بإزاء العدو فيدخلون مع الإمام في الصلاة، فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى وسجدتين ويتشهد، ثم يسلم الإمام، فإذا فرغ من الصلاة قامت الطائفة التي مع الإمام، فيأتون مقامهم من غير أن يتكلموا ولا يسلموا حتى يقفوا بإزاء العدو، وتأتي الطائفة التي كانت بإزاء العدو وهم الذين صلوا مع الإمام الركعة الأولى، فيأتون مكانهم الذين صلوا فيه فيقضون ركعة وسجدتين وحدانا من غير إمام ولا قراءة ويقعدون ويسلمون، ثم يقومون فيأتون مكانهم، ثم تأتي الطائفة الذين صلوا مع الإمام الركعة الثانية فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة بغير إمام، ويتشهدون ويسلمون، ثم يقومون فيأتون أصحابهم فيقفون معهم.

                                                                                                                                                                              وفي هذا الباب قول رابع: وهو أن كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. هذا مذهب أحمد، وإسحاق، ومال أحمد إلى حديث سهل بن أبي حثمة ، وقال إسحاق: كلها على أوجه خمسة أو أكثر، فأيها أخذت به أجزأك وقول سهل يجزئ ولسنا (نختار به) على غيره.

                                                                                                                                                                              وقال أحمد: ستة أوجه تروى فيه أو سبعة.

                                                                                                                                                                              مسائل:

                                                                                                                                                                              كان مالك بن أنس يقول: لا يصلي صلاة الخوف [ركعتين] [ ص: 27 ] إلا من كان في سفر، لا يصليها من هو في حضر، فإن كان [خوف] في الحضر [صلوا] أربع ركعات ولم يقصروا. وكان الأوزاعي يقول: يصلون صلاة الخوف أربع ركعات - يعني في الحضر - يصلي إمامهم بطائفة منهم ركعتين، وبالطائفة الأخرى ركعتين. وهذا على مذهب الشافعي . وقال أحمد بن حنبل: يصلون أربعا.

                                                                                                                                                                              وكان سفيان الثوري يقول: إذا كنت بأرض تخاف السبع، أو الذئب، أو العدو إن نزلت أن يأخذوك، أومأت إيماء حيث كان وجهك واقفا كنت أو سائرا. وهذا على مذهب الشافعي، وإسحاق، والأوزاعي، ومحمد بن الحسن.

                                                                                                                                                                              وكان مالك يقول: من خاف لصا أو سبعا صلى المكتوبة على دابته، فإذا أمن أعاد في الوقت.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: لا يعيد.

                                                                                                                                                                              وقال محمد بن الحسن في الرجل لا يستطيع أن يقوم من خوف العدو: يسعه أن يصلي قاعدا: يومئ إيماء [ ص: 28 ]

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول: إذا صلى قاعدا وهو يقدر على القيام - وإن كان خائفا - أعاد.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر لا يعيد.

                                                                                                                                                                              وكان الشافعي يقول: إن دخل الصلاة في شدة الخوف راكبا ثم نزل فأحب إلي أن يعيد، وإن لم ينقلب وجهه عن القبلة لم تكن عليه إعادة؛ لأن النزول خفيف.

                                                                                                                                                                              وكان أبو ثور يقول: يبني في الحالين ولا إعادة عليه.

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر: إذا صلى ركعة في حال الأمن، ثم حدث خوف واحتاج إلى الركوب ركب وصلى، ولا إعادة عليه، فإن صلى ركعة في شدة الخوف ثم زال الخوف نزل فبنى، ولا إعادة عليه، وقد يصلي المريض ركعة قاعدا في الحال التي لا يقدر على القيام، ثم تزول العلة فيقوم فيبني ولا إعادة عليه، وقد يصلي الصبح ركعة وهو قائم، ثم يعتل فيجلس ويتم صلاته جالسا، كل ذلك جائز؛ لأن الذي عليه أن يأتي بالصلاة على قدر إمكانه وطاقته، وليس على أحد أتى بالذي يقدر عليه إعادة.

                                                                                                                                                                              وكان سفيان الثوري يقول في صلاة المسايفة: يصلي أينما كان وجهه فإن لم يستطع أن يقرأ يجزئه التكبير. وروي عن الضحاك أنه قال: تكبيرتين حيث كان وجهه، وكان الثوري يميل إلى هذا القول [ ص: 29 ]

                                                                                                                                                                              وقال أحمد بن حنبل - وذكر له قول سفيان - : يجزئه التكبير، قال أحمد: لا بد من القراءة. وكذلك قال إسحاق، وهو قول الشافعي .

                                                                                                                                                                              وكان إسحاق يقول: إذا لم يقدر القوم في صلاة الخوف على ما وصفناه، وكان عند المسايفة فلم يقدروا على ركوع ولا سجود أجزأهم التكبير، ليس لأحد أن يدع من الصلاة شيئا يقدر عليه، وإذا لم يقدر على الركوع والسجود جاز له الإيماء، فإن لم يقدر على ذلك صلى بقلبه وذكر الله بما قدر عليه؛ لأن الله أسقط القيام عن المريض والركوع والسجود، وذلك أفضل الصلاة، وأسقطت عنه للعلة التي به؛ قال الله عز وجل: ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) الآية، أي طاقتها، ولم يأمره أن يترك الصلاة، وكذلك صلاة الخوف، فإذا قدر على شيء منه لم يدع ما يقدر عليه لما لا يقدر [ ص: 30 ]

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية