الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            2003 - أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، نا محمد بن إسماعيل ، نا علي بن عبد الله ، حدثنا جرير، عن منصور ، عن مجاهد ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : "لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".

                                                                            وقال يوم فتح مكة : "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه"، فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم؟ قال: "إلا الإذخر". [ ص: 295 ]

                                                                            .

                                                                            هذا حديث متفق على صحته، أخرجه مسلم، عن إسحاق الحنظلي ، عن جرير.

                                                                            وقوله: "لا هجرة"، يريد بها الهجرة من مكة إلى المدينة ، فإنها ارتفعت يوم الفتح، لأن مكة صارت يوم الفتح دار الإسلام، وكانت الهجرة عنها واجبة قبل ذلك، لكونها مساكن أهل الشرك، وكل من أسلم اليوم في بلدة من بلاد أهل الشرك، فإنه يؤمر بمفارقتها، والهجرة عنها إلى دار الإسلام، وهو معنى قوله عليه السلام: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة"، ويروى: " انقطعت الهجرة إلا من ثلاث: جهاد، أو نية، أو حشر ". [ ص: 296 ]

                                                                            .

                                                                            أراد: انقطعت الهجرة، وترك الأوطان، إلا في ثلاث: جهاد في سبيل الله، أو نية يفارق بها الرجل الفسق والفجور إذا لم يقدر على تغييره، أو جلاء يصيب الناس، فيخرجون من ديارهم.

                                                                            قاله القتيبي .

                                                                            وذكر الخطابي على قوله: "لا هجرة بعد الفتح"، قال: كانت الهجرة على معنيين: أحدهما: أن الآحاد من القبائل كانوا إذا أسلموا، وهم بين ظهراني قومهم، فتنوا وأوذوا، فأمروا بالهجرة، ليزول عنهم ذلك.

                                                                            والآخر: أن أهل الدين بالمدينة كانوا في قلة وضعف، فكان الواجب على من أسلم من الأعراب أن يهاجروا إليهم، ليتقووا بهم، فلما فتحت مكة ، استغنوا عن ذلك، إذ كان معظم الخوف على المسلمين منهم، فقيل لهم: أقيموا في أوطانكم على نية الجهاد، فإن فرضه غير منقطع مدى الدهر، وكونوا مستعدين له لتنفروا إذا استنفرتم.

                                                                            قوله: "ولم يحل لي إلا ساعة من النهار"، أراد به ساعة الفتح أبيحت له إراقة الدم فيها دون الصيد، وقطع الشجر، وسائر ما حرم على الناس منها.

                                                                            ويستدل بهذا من يذهب إلى أن مكة ، فتحت عنوة لا صلحا، وهو قول الأوزاعي ، وأصحاب الرأي.

                                                                            وتأوله غيرهم على معنى أنه أبيح له أن يدخلها من غير إحرام، لأنه عليه السلام دخلها وعليه عمامة سوداء. [ ص: 297 ]

                                                                            .

                                                                            وقوله: "لا يعضد شوكه"، أي: لا يقطع، وأراد به ما لا يؤذي منه، فأما المؤذي من الشوك كالعوسج، فلا بأس بقطعه، كالحيوان المؤذي لا بأس بقتله.

                                                                            وفي رواية أبي هريرة : "لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد"، والعضد: القطع، وظاهر الحديث يوجب تحريم قطع أشجار الحرم على العموم، سواء ذلك ما غرسه الآدميون، أو نبت من غير غرس، وهو ظاهر مذهب الشافعي ، وفيه قول آخر: [ ص: 298 ] أن النهي مصروف إلى ما نبت من غير غرس آدمي، ولم تجر العادة بإنباته كالأراك، والطرفاء، والغضى، ونحوها.

                                                                            فأما ما جرت العادة بإنباته، كالفواكه، والخلاف، والعرعر، والصنوبر ونحوها، فلا بأس بقطعها، كما أن المحرم ممنوع عن قتل الصيد غير ممنوع عن ذبح النعم والحيوان الإنسية.

                                                                            وإذا قطع شيئا من شجر الحرم، فعليه الجزاء عند أكثر العلماء، وإن كان القاطع حلالا، وهو قول ابن الزبير ، وعطاء ، وإليه ذهب الشافعي .

                                                                            فعليه في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، يتخير فيها بين أن يذبحها، فيتصدق بلحمها على مساكين الحرم، وبين أن يقومها دراهم، والدراهم طعاما، فيتصدق به على مساكين الحرم.

                                                                            أو يصوم عن كل مد يوما كما في جزاء الصيد.

                                                                            وقال مالك: لا يضمن شجر الحرم، وهو قول داود.

                                                                            أما إذا قطع غصنا من شجر الحرم، فإن كان مما يستخلف، فلا شيء عليه، وإن كان مما لا يستخلف، فعليه قيمته، فيصرفها إلى الطعام، فيتصدق به أو يصوم.

                                                                            قوله: "ولا ينفر صيده"، معناه: لا يتعرض له بالاصطياد، ولا يهاج، فإن أصاب شيئا من صيد الحرم، فعليه ما على المحرم يصيب الصيد، روي عن عمرو بن دينار ، أن غلاما من قريش قتل حمامة من حمام مكة ، فأمر ابن عباس أن يفدى عنه بشاة.

                                                                            وقال أبو حنيفة : لا مدخل للصوم في جزاء صيد الحرم.

                                                                            قوله: "ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها"، ويروى: "ولا يحل لقطتها إلا لمنشد"، أي: المعرف، فالمنشد: المعرف، والناشد: الطالب، [ ص: 299 ] سمي ناشدا لرفعه صوته بالطلب، والنشيد: رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر، وهو رفع الصوت به.

                                                                            واختلف أهل العلم في لقطة الحرم، فذهب قوم إلى أنه ليس لواجدها غير التعريف أبدا، ولا يملكها بحال، ولا يستنفقها، ولا يتصدق بها حتى يظفر بصاحبها، بخلاف لقطة سائر البقاع، وإلى هذا ذهب عبد الرحمن بن مهدي ، وهو أظهر قولي الشافعي .

                                                                            وروي عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن لقطة الحاج".

                                                                            وذهب الأكثرون إلى أنه لا فرق بين لقطة الحرم والحل، وقالوا: معنى قوله: "إلا من عرفها"، يعني: كما يعرفها في سائر البقاع حولا كاملا، حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا نادى عليها وقت الموسم، فلم يظهر مالكها، جاز له تملكها.

                                                                            وقوله: "ولا يختلى خلاه"، فالخلى: الرطب من النبات، فلا يجوز قطع حشيش الحرم، ولا قطعه رطبا، إن كان لا يستخلف إلا الإذخر لإذن صاحب الشرع فيه، فإن قطع شيئا سواه، فعليه الجزاء وهو قيمته، يصرفها إلى الطعام، فيتصدق به أو يصوم، وجوز الشافعي الرعي فيه، ولم يجوز أبو حنيفة الرعي، كالاحتشاش.

                                                                            ويجوز قطع الحشيش للدواء على أظهر وجهي أصحاب الشافعي ، كما يجوز قطع الإذخر للبيوت والقبور، ولا بأس بقطع الحشيش اليابس، والشجر اليابس، كالصيد الميت يقده. [ ص: 300 ]

                                                                            .

                                                                            وفي بعض الروايات: "ولا يختلى شوكها" وأكثر العلماء على إباحة الشوك إذا كان صلبا لا يرعاه الإبل كالحطب، فأما ما دق منه حتى يرعاه الإبل، فهو الذي يتناوله الحديث.

                                                                            ويكره على مذهب الشافعي نقل تراب الحرم، وإخراج الحجارة عنه، لتعلق حرمة الحرم بها، ولا يكره نقل ماء زمزم للتبرك، فقد روي عن عائشة أنها كانت تحمل من ماء زمزم، وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحمله.

                                                                            وقال العباس في زمزم: لست أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل.

                                                                            فالحل الحلال، والبل: المباح بلغة حمير.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية