الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            1888 - أخبرنا ابن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، نا مسلم بن الحجاج ، نا قتيبة بن سعيد ، نا ليث، عن أبي الزبير ، عن جابر، قال: أقبلنا مهلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج مفرد، وأقبلت عائشة بعمرة حتى إذا كنا بسرف ، عركت، حتى إذا قدمنا، طفنا بالكعبة، والصفا والمروة، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحل منا من لم يكن معه هدي، قال: فقلنا: حل ماذا؟ قال: "الحل كله"، فواقعنا النساء، وتطيبنا بالطيب، ولبسنا ثيابنا، وليس بيننا وبين عرفة إلا أربع ليال، ثم أهللنا يوم التروية، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة ، فوجدها تبكي، فقال: "ما شأنك؟"، قالت: شأني أني قد حضت، وقد حل الناس، ولم أحلل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، فقال: [ ص: 83 ] "إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم ، فاغتسلي، ثم أهلي بالحج"، ففعلت، ووقفت المواقف، حتى إذا طهرت، طافت بالكعبة، والصفا والمروة، ثم قال: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا"، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن، فأعمرها من التنعيم "، وذلك ليلة الحصبة.

                                                                            هذا حديث صحيح، .

                                                                            وفي الحديث دليل على أن القارن يكفيه طواف واحد بعد الوقوف بعرفة ، يروى ذلك عن ابن عمر ، أنه أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إنا نخاف أن يصدوك، فقال: إذا صنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى، إذا كان بظاهر البيداء، قال: أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي، فطاف طوافا واحدا، وسعيا واحدا، حتى حل منهما جميعا، [ ص: 84 ] وهو قول عطاء، ومجاهد ، والحسن ، وطاوس ، أن القارن يكفيه طواف واحد، وإليه ذهب مالك، والشافعي ، وأحمد، وإسحاق.

                                                                            روي عن عطاء، عن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لها: "طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك".

                                                                            وذهب قوم إلى أن القارن يطوف طوافين: أحدهما قبل الوقوف عن العمرة، والثاني بعده عن الحج، وهو قول الشعبي ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وأصحاب الرأي، وجاء في الحديث: "الطواف والسعي تو، وإذا استجمر فليستجمر بتو"، ومعنى التو: الوتر، وقيل معنى قوله: "الطواف والسعي تو"، أي: كل واحد سبع، وقيل: أراد أن الطواف الواجب طواف واحد، وكذلك السعي، سواء كان المحرم مفردا أو قارنا. [ ص: 85 ]

                                                                            .

                                                                            قال الإمام: ويجب على المتمتع والقارن شاة، ويذبح يوم النحر، فلو ذبح بعد ما أحرم بالحج، جاز عند الشافعي ، ولو ذبح مكان الشاة بدنة أو بقرة، جاز، وهو بالفضل متطوع.

                                                                            فإن لم يجد الهدي، فعليه صوم عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج يصومها بعد ما أحرم بالحج متى شاء، قبل يوم النحر.

                                                                            ويستحب أن يصومها قبل يوم عرفة حتى يكون يوم عرفة مفطرا، ويصوم سبعة أيام إذا رجع إلى [ ص: 86 ] أهله، لقوله سبحانه: ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) .

                                                                            وقيل: يجوز أن يصوم السبعة بعد الفراغ من أعمال الحج، وهو المراد من الرجوع المذكور في الآية، والأول أصح، كما روينا عن ابن عمر .

                                                                            روي عن ابن عباس ، أنه قال: ( وسبعة إذا رجعتم ) ، إلى أمصاركم.

                                                                            وقال الشعبي : على القارن بدنة، وزعم داود أنه لا شيء على القارن، لأنه لا نص فيه، وعامة أهل العلم قاسوا القارن على المتمتع.

                                                                            ولا يجب دم المتمتع حتى يكون إحرامه بالعمرة في أشهر الحج، ثم يحج في ذلك العام بإحرام من جوف مكة ، فإن اعتمر قبل أشهر الحج، ثم حج من عامه، فلا دم عليه.

                                                                            ولو اعتمر في أشهر الحج، ثم عاد إلى الميقات لإحرام الحج، أو رجع إلى أهله، ثم حج من عامه ذلك، فلا دم عليه، وإنما يجب دم التمتع، والقران على من لم يكن من حاضري المسجد الحرام، لقوله سبحانه وتعالى: ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) .

                                                                            فأما من كان من حاضري المسجد الحرام، فقرن أو تمتع، فلا دم عليه.

                                                                            واختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنهم أهل [ ص: 87 ] مكة ، وهو قول مالك، وقال ابن عباس : أهل الحرم، وبه قال طاوس .

                                                                            وقال قوم: من كان أهله على أقل من مسافة القصر عن الحرم، وهو قول الشافعي ، وقال قوم: من كان أهله بالميقات، أو دونه، وهو قول أصحاب الرأي.

                                                                            والعبرة بالمقام، لا بالمولد والمنشأ، حتى إن المكي إذا كان مقيما بالعراق، فخرج وتمتع، فعليه دم التمتع، ولو أقام عراقي بمكة ، فلا دم عليه، ولو خرج المكي مسافرا، فلما رجع أحرم بالعمرة من الميقات في أشهر الحج، ثم حج من عامه، فلا دم عليه، لأنه من الحاضرين.

                                                                            قال الإمام: قد اختلفت الرواية في إحرام النبي صلى الله عليه وسلم على ما سبق ذكره، وقد طعن جماعة من أهل الجهل، ونفر من الملحدين في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطالوا لسان الجهل في أهل الرواية والنقل، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام إلا حجة واحدة، وكان عامة الصحابة فيها معه، ثم اختلفوا في إحرامه هذا الاختلاف الفاحش، فروى بعضهم أنه [ ص: 88 ] كان مفردا، وروى بعضهم أنه كان متمتعا، وروى بعضهم أنه كان قارنا، وأسانيد الكل عند أهل الرواية، ونقلة الأخبار جياد صحاح، ثم وجد فيها هذا التناقض! يريدون بذلك توهين أمر الحديث، وتصغير شأن النقل.

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي ، رحمه الله: وقد أنعم الشافعي ، رضي الله عنه، بيان هذا المعنى في كتاب اختلاف الأحاديث، وجود الكلام فيه.

                                                                            والوجيز المختصر من جوامع ما قال فيه: أن معلوما في لغة العرب جواز إضافة الفعل إلى الآمر به، كجواز إضافته إلى الفاعل له، كقوله: بنى فلان دارا: إذا أمر ببنائها، وضرب الأمير فلانا: إذا أمر بضربه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا، وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر برجمه ولم يشهده، وأمر بقطع يد السارق، ومثله كثير في الكلام.

                                                                            وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد والقارن، والمتمتع، وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها، وأذن فيها، وكل قال صدقا، وروى حقا، لا ينكره إلا من جهل، أو عاند، والله الموفق.

                                                                            قال الإمام: ومال الإمام الشافعي في كتاب اختلاف الحديث إلى التمتع، وقال: ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا، وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح، لأن الكتاب، ثم السنة، ثم ما لا أعلم فيه خلافا، يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج، وإفراد الحج، والقران، واسع كله، وقال: ومن قال: إنه أفرد الحج، يشبه أن [ ص: 89 ] يكون قاله على ما يعرف من أهل العلم الذين أدركوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحدا لا يكون مقيما على الحج، إلا وقد ابتدأ إحرامه بحج.

                                                                            قال الإمام: ومما يدل على أنه كان متمتعا، أن الرواية عن ابن عمر ، وعائشة متعارضة، فقد روي عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج، وروينا عن ابن شهاب ، عن سالم، عن ابن عمر ، قال: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وروى ابن شهاب أيضا عن عروة، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبر سالم، عن ابن عمر .

                                                                            وروى ابن عمر ، عن حفصة ، أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس، حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك! وقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذه عمرة استمتعنا بها"، وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه.

                                                                            قال الإمام: وما روي عن جابر، أنه قال: خرجنا لا ننوي إلا الحج، لا ينافي التمتع، لأن خروجهم كان لقصد الحج، ثم منهم من قدم العمرة ومنهم من أهل بالحج إلى أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله متعة.

                                                                            وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما أهديت"، لا يقطع بأنه كان محرما بالحج، بل يحتمل، وهو الأشبه، أنه كان محرما بالعمرة، فاستحب استدامة حكم إحرامه لمكان هديه إلى أن يحرم بالحج ويخرج منه. [ ص: 90 ]

                                                                            .

                                                                            واختلف أهل العلم في المتمتع إذا كان قد ساق الهدي، هل يستبيح محظورات الإحرام بعد الفراغ من أعمال العمرة، فذهب قوم إلى أنه لا يستبيحها حتى يفرغ من الحج، وإذا أحرم بالحج يصير قارنا، وهو قول أصحاب الرأي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله".

                                                                            وذهب قوم إلى أنه يستبيحها، وقد حل بالفراغ من أعمال العمرة عنها، كمن لم يسق الهدي، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم استحباب وسنة، غير حتم، والله أعلم، وهو قول الشافعي .

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية