الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 5 ] جماع أبواب فتح مكة حرسها الله تعالى

                                        باب نقض قريش ما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية

                                        أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن الحربي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد [ ص: 6 ] الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير عن ابن إسحاق، قال: حدثنا الزهري، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، والمسور بن مخرمة، أنهما حدثاه جميعا، قالا: " كان في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بينه وبين قريش أنه من شاء يدخل في عقد محمد وعهده دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة، فقالوا: نحن ندخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر، فقالوا: نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة والثمانية عشر شهرا، ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش وعهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ليلا بماء لهم يقال له: "الوتير" قريب من مكة، فقالت قريش: ما يعلم بنا محمد، وهذا الليل وما يرانا أحد، فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح، فقاتلوهم معه للطعن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن عمرو بن سالم ركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان من أمر خزاعة وبني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، وقد قال أبيات شعر، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشده إياها:


                                        اللهم إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا     كنا والدا وكنت ولدا
                                        ثم أسلمنا ولم ننزع يدا     فانصر رسول الله نصرا أعندا
                                        وادع عباد الله يأتوا مددا [ ص: 7 ]     فيهم رسول الله قد تجردا
                                        إن سيم خسفا وجهه تربدا     في فيلق كالبحر يجري مزبدا
                                        إن قريشا أخلفوك الموعدا     ونقضوا ميثاقك المؤكدا
                                        وزعموا أن لست أرجو أحدا     فهم أذل وأقل عددا
                                        قد جعلوا لي بكداء مرصدا     هم بيتونا بالوتير هجدا
                                        فقتلونا ركعا وسجدا

                                        فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم" .

                                        فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت عنانة في السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب.

                                        وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالجهاز، وكتمهم مخرجه، وسأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.


                                        زاد أبو عبد الله في روايته، قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يشد العقد ويزيد في المدة" قال ابن إسحاق: ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة، حتى قدموا [ ص: 8 ] على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين، حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيده في المدة، وقد ترهبوا للذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفى بطن هذا الوادي، فعمد أبو سفيان إلى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها قفته فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.

                                        ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ فقالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال: يا بنية، والله لقد أصابك شيء بعدي، ثم خرج، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه فقال عمر: أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها حسن غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه، فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ فقالت: والله ما بلغ بنيي ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد [ ص: 9 ] على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        فقال: يا أبا الحسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني، قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، فقال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا، والله ما أظنه ولكن لا أجد لك غير ذلك، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس.

                                        ثم ركب بعيره، فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فوالله ما وجدت فيه خيرا، ثم جئت عمر فوجدته أعدى العدو، ثم جئت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا؟ قالوا: بماذا أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، فقالوا: هل أجاز ذلك محمد؟ فقال: لا، فقالوا: ويحك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك، فما يغني عنا ما قلت، فقال: لا، والله ما وجدت غير ذلك".


                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية