الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        [ ص: 273 ] حديث كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.

                                        أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا عبيد بن شريك.

                                        (ح) وحدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ لفظا، وسياق الحديث له، حدثنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا عبيد بن عبد الواحد يعني ابن شريك، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب قائد كعب حين عمي من بنيه، قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، قال كعب بن مالك: " لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا غزوة تبوك ، غير أني تخلفت عن غزوة بدر، ولم يعاتب الله أحدا حين تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر يعني أذكر في الناس منها وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في [ ص: 274 ] تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبلها راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، لا يجمعهم كتاب حافظ، يريد الديوان، قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إذا أردته، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو بيومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا من النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء، فلم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، قال وهو جالس في القوم بتبوك : "ما فعل كعب؟" فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه [ ص: 275 ] برداه ينظر في عطفه، فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا إلا خيرا، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

                                        قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني همي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطل قادما راح عني الباطل، وعرفت أني لا أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم، واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: "تعال" ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال: "ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟" ، فقلت: بلى يا رسول الله إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخط علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، ووالله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما هذا فقد صدق، قم حتى يقضي الله فيك" ، فقمت وثار رجال من بني سلمة، فقالوا: لا والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما ما قيل لك، فقلت: من [ ص: 276 ] هما؟ قالوا: مرارة بن ربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، فأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم عليه، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلى فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة المسلمين تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك الله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، قال: فعدت له فناشدته الثالثة، فقال: الله ورسوله أعلم.

                                        ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار.

                                        قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة ويقول: من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة [ ص: 277 ] ، فالحق بنا نواسك، فقلت حين قرأتها: وهذا أيضا من البلاء، فتيممت به التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت لنا أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل بها؟ فقال: لا، بل اعتزلها فلا تقربنها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله هذا الأمر.

                                        قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليست له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: "لا، ولكن لا يقربنك" .

                                        قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي مذ كان من أمره ما كان إلى يومي هذا، فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية تخدمه، فقلت: والله لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن استأذنته فيها وأنا رجل شاب.

                                        فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع: يا كعب بن مالك، أبشر، قال: فخررت ساجدا، وعرفت أنه قد جاء الفرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى [ ص: 278 ] صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع إلي من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤنني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور: "أبشر بخير يوم مر عليك مذ ولدتك أمك" .

                                        قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله تعالى قال: "لا، بل من عند الله تبارك وتعالى" .

                                        وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بشر ببشارة يبرق وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله عز وجل وإلى الرسول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك" ، فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله، إن الله عز وجل إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي أني لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين ابتلاه الله في صدق الحديث مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما ابتلاني، ما تعمدت مذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي، وأنزل الله عز وجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم [ ص: 279 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، فوالله ما أنعم الله علي من نعمة بعد أن هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله عز وجل قال للذين كذبوه حين نزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال الله تبارك وتعالى سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين قال كعب: وكنا تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله تبارك وتعالى وعلى الثلاثة الذين خلفوا ، وليس الذي ذكر الله تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا ممن حلف واعتذر، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم "
                                        رواه البخاري في الصحيح عن يحيى بن بكير، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن الليث.

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية