الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        صفحة جزء
                                        أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي المقرئ، قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن إسحاق، قال: حدثنا يوسف بن يعقوب، قال: حدثنا سليمان بن حرب، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، في فتح مكة ح وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا الحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران قال العباس بن عبد المطلب، وقد خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة: واصباح قريش والله لإن بغتها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلادها فدخل عنوة مكة، إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على [ ص: 33 ] بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت فوالله إني لأطوف بالأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، وقد خرجوا يتحسبون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت صوت أبي سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيرانا، فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذل، فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة وهو أبو سفيان، فقال: أبا الفضل، فقلت: نعم، فقال: لبيك فداك أبي وأمي، فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقد دلف إليكم بما لا قبل لكم به في عشرة آلاف من المسلمين، قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فردفني، فخرجت أركض به بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فنظر فرآه خلفي، فقال عمر: أبو سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إني قد أمنته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما أكثر فيه عمر، قلت: مهلا يا عمر، فوالله لا تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني [ ص: 34 ] عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال عمر: مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب به فقد أمناه حتى تغدو علي به بالغداة" .

                                        فرجع به إلى منزله، فلما أصبح غدا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله" ؟ فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأكرمك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا بعد، فقال: "ويحك يا أبا سفيان، أولم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟" فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمك، أما والله هذه فإن في النفس منها شيئا.

                                        فقال العباس: فقلت: ويلك تشهد شهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك، فتشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس حين تشهد أبو سفيان: "انصرف به يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حين تمر عليه جنود الله" .

                                        فقلت له: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا يكون له في قومه، فقال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن" .

                                        فخرجت به حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه [ ص: 35 ] القبائل فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سليم، فيقول: ما لي ولسليم، وتمر به القبيلة فيقول: من هؤلاء هذه؟ فأقول: أسلم، فيقول: ما لي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: من هذه؟ فأقول: جهينة فيقول: ما لي ولجهينة، حتى مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، فقال: يا أبا الفضل من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقلت: ويحك، إنها النبوة، قال: فنعم إذا.

                                        قلت: الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى جاء مكة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فقالوا: فمه قال: من دخل داري فهو آمن.

                                        قالوا: ويحك وما دارك، وما تغني عنا قال: ومن دخل المسجد هو آمن ومن غلق عليه داره فهو آمن "
                                        هذا لفظ حديث حسين بن عبد الله، وأما أيوب فإنه لم يجاوز به عكرمة ولم يسق شيخنا الحديث بتمامه.

                                        وقد رواه عبد الله بن إدريس، عن أبي إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس بمعناه، وله شواهد في عقد الأمان لأهل مكة بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة سائر أهل المغازي منها.

                                        ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو جعفر البغدادي، قال: حدثنا [ ص: 36 ] أبو علاثة، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر ألفا من المهاجرين والأنصار، وغفار، وأسلم، ومزينة، وجهينة، وبني سليم، وقادوا الخيول حتى نزلوا بمر الظهران، فلم تعلم بهم قريش، وبعثوا أبا سفيان وحكيم بن حزام فلقيا بديل بن ورقاء فاستصحباه حتى إذا كانوا بالأراك من مكة وذلك عشاء، وإذا الفساطيط والعسكر وسمعوا صهيل الخيل فراعهم ذلك، وفزعوا منه، وقالوا: هؤلاء بنو كعب حاشتها الحرب، قال بديل بن ورقاء: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هذا، أفتنجع هوازن أرضنا؟ والله ما نعرف هذا أيضا.

                                        وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بين يديه خيلا تقبض العيون، وخزاعة على الطريق لا يتركون أحدا يمضي، فلما دخل أبو سفيان وأصحابه عسكر المسلمين أخذتهم الخيل تحت الليل وأتوا بهم خائفين للقتل، فقام عمر بن الخطاب إلى أبي سفيان فوجأ عنقه والتزمه القوم وخرجوا به ليدخلوا به على النبي صلى الله عليه وسلم، فحبسه الحرس أن يخلص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وخاف القتل، وكان عباس بن عبد المطلب خاصة له في الجاهلية فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي إلى العباس، فأتاه العباس فدفع عنه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيضه إليه، وفشا في القوم مكانه أنه عند عباس، فركب به عباس تحت الليل وسار به في عسكر القوم حتى أبصروه أجمع، وكان عمر رضي الله عنه قد قال لأبي سفيان حين وجأ عنقه: والله لا تدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تموت، فاستغاث بعباس رضي الله عنه فقال: إني مقتول، فمنعه من الناس أن ينتهبوه، فلما رأى كثرة الجيش وطاعتهم، قال: لم أر كالليلة جمعا لقوم [ ص: 37 ] .

                                        فخلصن عباس من أيديهم، وقال: إنك مقتول، إن لم تسلم وتشهد أن محمدا رسول الله، فجعل يريد أن يقول الذي يأمره به عباس، فلا ينطلق به لسانه، فبات مع عباس.

                                        وأما حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء فدخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يستخبرهما عن أهلمكة، فلما نودي بالصلاة صلاة الصبح تحشحش القوم ففزع أبو سفيان فقال: يا عباس، ماذا يريدون؟ فقال: هم المسلمون سمعوا النداء بالصلاة، فسروا بحضور النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج بهالعباس فلما أبصرهم أبو سفيان يمرون إلى الصلاة، وأبصرهم في صلاتهم يركعون ويسجدون إذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا عباس، ما أمرهم بشيء إلا فعلوه، قال له عباس: لو نهاهم عن الطعام والشراب لأطاعوه، قال: يا عباس، فكلمه في قومك هل عنده من عفو عنهم، فانطلق عباس بأبي سفيان حتى أدخله على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عباس: يا رسول الله، هذا أبو سفيان وقال أبو سفيان: يا محمد، إني قد استنصرت إلهي واستنصرت إلهك فوالله ما لقيتك مرة إلا ظهرت علي، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لظهرت عليك، فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فقال عباس: إني أحب أن تأذن لي إلى قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الله ورسوله، فأذن له، فقال عباس: كيف أقول لهم؟ بين لي من ذلك أمنا يطمئنون إليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تقول لهم: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له وشهد أن محمدا رسول الله وكف يده فهو آمن، ومن جلس عند الكعبة ووضع سلاحه فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن".

                                        قال عباس: يا رسول الله، أبو سفيان ابن عمنا وأحب أن يرجع معي وقد خصصته بمعروف، فقال: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" .

                                        ودار أبي سفيان بأعلى مكة، وقال: "من دخل دار حكيم بن حزام وكف يده فهو آمن" .

                                        ودار حكيم بن حزام بأسفل مكة.

                                        وحمل النبي صلى الله عليه وسلم عباسا على بغلته البيضاء التي كان أهداها له دحية بن [ ص: 38 ] خليفة الكلبي، فانطلق عباس بأبي سفيان قد أردفه، فلما سار بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أثره، فذكر الحديث في وقف أبي سفيان بالمضيق دون الأراك حتى مرت به الخيل، فلما رأى أبو سفيان وجوها كثيرة لا يعرفها قال: يا رسول الله، أكثرت , أو: كثرت هذه الوجوه علي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان: "أنت فعلت ذلك وقومك، إن هؤلاء صدقوني إذ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني"
                                        وذكر القصة وذكر فيها قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة.

                                        اليوم تستحل الحرمة.

                                        إلا أنه لم يذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ورده عليه، وقد روى أبو أسامة عن هشام بن عروة، عن أبيه بعض هذه القصة وذكر فيه قول سعد بن عبادة: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة.

                                        اليوم تستحل الكعبة.

                                        فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة قال: "ما قال؟" : قال: كذا وكذا، قال: "كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة".

                                        التالي السابق


                                        الخدمات العلمية