[ ص: 19 ] الباب الثالث في وجوب العمل به  
وهو حجة في الأمور الدنيوية بالاتفاق . قال الإمام الرازي    : كما في الأدوية والأغذية والأسعار . وكذلك القياس الصادر منه صلى الله عليه وسلم بالاتفاق ، قال صاحب التلخيص : لأن مقدماته قطعية لوجوب علم وقوعه قال : وإنما النزاع منا ويجب العمل به إذا عدم النص والإجماع . وقال صاحب " القواطع " : ذهب كافة الأئمة من الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أن القياس الشرعي أصل من أصول الشرع يستدل به على الأحكام التي لم يرد بها السمع ، قال  الإمام أحمد    : لا يستغني أحد عن القياس . 
وقال  الأستاذ أبو منصور  والمثبتون للقياس اختلفوا فيه على أربعة مذاهب : 
أحدها : ثبوته في العقليات والشرعيات وهو قول أصحابنا من الفقهاء والمتكلمين وأكثر المعتزلة    .  [ ص: 20 ] 
والثاني : ثبوته في العقليات دون الشرعيات ، وبه قال  النظام  وجماعة من أهل الظاهر    . 
والثالث : نفيه في العلوم العقلية ، وثبوته في الأحكام الشرعية التي ليس فيها نص ولا إجماع ، وبه قال طائفة من القائلين بأن المعارف ضرورية . 
والرابع : نفيه في العقليات والشرعيات ، وبه قال أبو بكر بن داود الأصفهاني  قال : والمثبتون له في العقليات والشرعيات أوجبوه في الحوادث التي ليس فيها نص ولا إجماع وأجازوه فيما فيه أحد هذه الأصول إذا لم يرد إلى خلافها ، انتهى . ثم المثبتون له اختلفوا في مواضع : 
أحدها : في طريق إثباته    : فقال الأكثرون : هو دليل بالشرع ، ونص عليه في " الرسالة " فقال : وأما القياس فإنما أخذناه استدلالا بالكتاب والسنة والآثار . وقال القفال  وأبو الحسين البصري    : هو دليل بالعقل ، والأدلة السمعية وردت مؤكدة له ولو قدرنا عدم وجودها لتوصلنا بمجرد العقل إلى انتصاب الأقيسة عللا في الأحكام . وقال الدقاق    : يجب العمل به بالعقل والشرع ، حكاه في " اللمع " ، وجزم به  ابن قدامة  في " الروضة " وجعله مذهب  أحمد  لقوله : لا يستغني أحد عن القياس قال : وذهب أهل الظاهر   والنظام  إلى امتناعه عقلا وشرعا ، وإليه مال  أحمد  في قوله : يجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس ، وقد تأوله  القاضي أبو يعلى  على ما إذا كان القياس مع وجود النص مخالفا له لأنه حينئذ يكون فاسد الاعتبار . 
وثانيها : هل دلالة السمع عليه قطعية أو ظنية  ؟ وبالأول قال الأكثرون ، وبالثاني قال أبو الحسين  والآمدي    . 
وثالثها : قيل : إنما يعمل به إذا كانت العلة منصوصة أو  [ ص: 21 ] بطريق الأولى . والجمهور على وجوب العمل به مطلقا . 
وأما المنكرون للقياس ، فأول من باح بإنكاره  النظام  ، وتابعه قوم من المعتزلة  كجعفر بن حرب   وجعفر بن مبشر  ومحمد بن عبد الله الإسكافي  ، وتابعهم من أهل السنة  على نفيه في الأحكام  داود الظاهري    . قال أبو القاسم عبد الله بن عمر بن أحمد الشافعي البغدادي  في كتاب في القياس ، مما حكاه عنه  ابن عبد البر  في كتاب جامع العلم " : ما علمت أحدا سبق  النظام  إلى القول بنفي القياس والاجتهاد ، ولم يلتفت إليه الجمهور ، وخالف أبو الهذيل  فيه ورده عليه " انتهى " . وقرر الناقلون بحث الظاهرية  فقال  ابن عبد البر  في كتاب " العلم " : لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة  في نفي  [ ص: 22 ] القياس في التوحيد  وإثباته في الأحكام إلا  داود  فإنه نفاه فيهما جميعا قال : ومنهم من أثبته في التوحيد ونفاه في الأحكام . وأطلق  القاضي أبو الطيب  عن  داود  والنهرواني  والمغربي  والقاشاني  أن القياس محرم بالشرع . 
وقال  الأستاذ أبو منصور    : فأما  داود  فإنه زعم أن لا حادثة إلا وفيها حكم منصوص عليه في القرآن أو السنة أو مدلول عليه بفحوى النص ودليله ، وذلك مغن عن القياس . فمنها ما ذكره الله مفصلا ، ومنها ما أجمل ذكره في القرآن وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالتفصيل والبيان ، ومنها ما اتفقت عليه الأمة . وما ليس فيه نص ولا إجماع فحكمه الإباحة بعفو الله سبحانه عن ذكره ، وتركه النص على تحريمه ، أو بإخبار عن فاعل فعله من غير ذم له على فعله ، أو تورد الرواية عما فعل بحضرته عليه السلام فلم ينكره . 
وقال ابن القطان    : ذهب  داود  وأتباعه إلى أن القياس في دين الله تعالى باطل ولا يجوز القول به . وقال  القاضي عبد الوهاب    : ذهب  داود الأصفهاني  وغيره إلى أن التعبد بالقياس  جائز ولكنه لم يرد ، وأن القول به والمصير إليه غير جائز لعدم الدليل القاطع أن الله تعالى تعبدنا به . وكذا نقل الشيخ  في " اللمع " أنه يجوز العمل به عقلا إلا أن الشرع منع . وقال  ابن حزم  في " الإحكام " : ذهب أهل الظاهر  إلى إبطال القول بالقياس جملة وهو قولنا الذي ندين الله تعالى به والقول بالعلل باطل قال : وذهب بعض منكري القياس إلى أن الشارع إذا جعل شيئا ما علة لحكم  [ ص: 23 ] فحيثما وجد ذلك وجب ذلك الحكم ، كنهيه عن الذبح بالسن . قال : وإنما السن عظم فهو يدل على أن كل عظم لا يذبح به . قال : وهذا لا يقول به  داود  ولا أحد من أصحابنا وإنما هو قول قوم لا يعتد بهم من جملتنا كالقاشاني  وضربائه ، وقالوا : أما ما لا نص فيه فلا يجوز أن يقال : إن هذا لسبب كذا . وقال  داود  وجميع أصحابه : لا يفعل الله شيئا من الأحكام وغيرها لعلة أصلا ، وإذا نص الشارع على أنه لكذا ، أو بسبب كذا ، أو لأنه ، فهو دال على أنه جعله سببا لتلك الأحكام في تلك المواضع التي جاء النص فيها ولا توجب تلك الأشياء شيئا من تلك الأحكام وغير تلك المواضع المبينة . ثم قال : ولسنا ننكر وجود بعض أسباب الأحكام الشرعية بل نثبتها ونقول بها لكن نقول : إنها لا تكون أسبابا إلا حيث جعلها الله أسبابا ولا يتعدى بها الموضع المنصوص على أنها أسباب له انتهى كلامه . 
وقد عرف به مذهب الظاهرية  على الحقيقة ، وأن  داود  وأصحابه لا يقولون بالقياس ، ولو كانت العلة منصوصة ، وإنما القائل به القاشاني  وضرباؤه . ونقل القاضي  والغزالي  عن القاشاني  والنهرواني  القول به فيما إذا كانت العلة منصوصة أومئ إليها في الأحكام المتعلقة بالأسباب ،  [ ص: 24 ] كرجم ماعز  لزناه ، والمعلق باسم مشتق كالسارق ، وكأنهما يعنيان بهذا القسم تنقيح المناط . وقال القاضي    : واختلف هل هما بهذا من القائلين بالقياس أم لا ؟ ونقل الآمدي  عنهما القول به في العلة المنصوصة دون ما إذا كان الحكم في الفرع أولى به من الأصل . ونقل  الأستاذ أبو منصور  عن القاشاني  أنه قال : كل حكم وقع في شخص لسبب من الأسباب استدل به على حكم كل ما وجد فيه مثل ذلك السبب إن لم يمنع منه دليل شرعي . ونقل عن النهرواني  أنه قال : استدل على الفأرة تقع في السمن على السنور إذا وقع قال : وهذا منهما اعتراف بالقياس . 
وقال  أبو بكر الصيرفي  في " أصوله " : المنكرون للقياس كأنهم أنكروا التسمية وإلا فهم يعترفون به ، وهو المغربي  وأبو سعيد النهرواني  والقاشاني    . أما القاشاني  فإنه يزعم أنه يستدل بأن الكلام إذا شرع على سبب في شخص ، فالحكم للسبب فيما عدا ذلك الشخص وأنه يساويه ، فإن جرى علم صحته وإن لم يجر علم بطلانه ، ويدعي أنه يبطل القياس ، فهل قال أصحاب القياس شيئا غير هذا ؟ وأما النهرواني  فإنه يزعم أنه يستدل بالفأرة تقع في السمن على السنور ، وزعم أن المراد النجاسة ثم سلكا في النفقات والأشياء الظاهرة الجلية أنها معقولة عن الخطاب ومعلومة بالعادة . فهؤلاء ما اهتدوا قط لنفي القياس . ولم ينف القياس قط في الأحكام غير  إبراهيم ( يعني النظام )  من المتكلمين وأتباعه ، ومن الفقهاء  داود  ومن بعده ، وكل هؤلاء يزعم أنه لو قيل لنا : حرمت الخمر لأنها حلوة لم يحرم غيرها من كل حلو ، وسواء عليه قال : لأنه حلو أو لم يقل . انتهى . 
وقال في موضع آخر : وقد نقل عن  النظام  إنكار القياس ، على أنه قد  [ ص: 25 ] قال إن الشيء إذا تقدمت إباحته في الجملة واحتاج إلى العبرة اعتبر بعضه ببعض ، ونص على إيجاب النفقات للأزواج وأنه اعتبر بنظائرها ، وهذا هو الذي قاله القياسيون : إن القياس لا يوجب ابتداء الحكم ووضعها ، فإذا وضعت الأصول واحتيج إلى تمييزها والتنفيذ للحكم استدل ببعضها على بعض كما ذكر هذا الرجل في النفقات انتهى . 
وقال ابن كج    : النافي للقياس قائل به في كثير من المسائل ، فمنه رجم الزاني قياسا على ماعز  ، وإراقة الزبد المتنجس قياسا على السمن ، وجواز الخرص والمساقاة قياسا على الكرم ، ومنع التضحية بالعمياء قياسا على العوراء ، وأن حكم الحاكم وهو يدافع الأخبثين مكروه قياسا على الغضب . 
وقال  ابن عبد البر  في كتاب " جامع العلم " :  وداود  وإن أنكر القياس فقد قال بفحوى الخطاب وقد جعله قوم من أنواع القياس . وقال أبو الحسن السهيلي  في " أدب الجدل " له : كل من منع كون القياس حجة فإنه يستدل به ثم يسميه باسم الاستدلال والاستنباط أو الاجتهاد أو دليل الشرع أو غيره . 
واعلم أن  النظام  إنما أنكر القياس في شريعتنا خاصة ، ولم ينكر القياس العقلي ولا الشرعي السالف . ثم المنكرون للقياس اختلفوا في طريق نفيه    : فقيل : ينفى بالعقل وحده ، ثم اختلفوا : فقيل : إن الخوض فيه قبيح  [ ص: 26 ] لعينه ، وقيل : يجب أن يصطلح لعباده فينص على الأحكام كلها ، حكاهما إمام الحرمين    . 
وقيل : لأن الأحكام الشرعية طريقها المصالح ولا يعرف المصالح إلا صاحب الشرع فلا يجوز إثباتها إلا من جهة التوقيف . وقيل : لأنها جعلت على وجوه لا يمكن العلم بها قياسا ، كتحمل العاقلة الدية ، وإيجابه القسامة باللوث ، والحكم بالشفعة ، والفرق بين المخابرة والمساقاة ، وجمعت الشريعة بين أشياء مختلفة ، وفرقت بين أشياء متفقة ، فلذلك امتنع القياس ، ولا وجه إلا امتناع النص . وقيل : لأن المعارف ضرورية وهو لا يوجب العلم الضروري حكاهما  الأستاذ أبو منصور    . وقيل : لأن التعبد بالشرعيات حصل على وجه لا يصح معه القياس فلو وقع على خلافه صح . 
ومنهم من قال : لا يجوز ذلك ، لأن الحكم لا يقتصر على أدنى طرق البيان مع القدرة على أعلاها ، ولا يعلق عبادته بالظن الذي يخطئ دون العلم ، لأنه يؤدي إلى التضاد في الأحكام ، وحكاهما  ابن فورك  ، وقيل لضعف البيان الحاصل به ، حكاه ابن السمعاني    . 
وقيل : بل ينفى بالشرع ، والعقل يقتضي جوازه ، لكن الشرع منع ، ونقله القاضي وغيره عن  داود    . وقال  الأستاذ أبو منصور    : إنه مذهب أكثر الظاهرية   كداود  والقاشاني  والمغربي  وأبي سعيد النهرواني  ثم إن القاشاني  والنهرواني  ناقضا ، فقال القاشاني    : " كل حكم وقع . . . " ونقل إلى آخر ما تقدم عنه وعن صاحبه المذكور ، ثم قال : وأما  داود الأصفهاني   والنظام  فأسرفا ، فقال  داود    : لو قيل لنا حرم السكر لأنه حلو لم يدل على تحريم كل حلو ،  [ ص: 27 ] وقال الغزالي    . والفرق المبطلة ثلاثة : المحيلة له عقلا ، والموجبة له عقلا ، والحاظرة له شرعا . 
قلت : والمانعون له سمعا افترقوا فرقتين : 
فرقة قالت : نصوص الكتاب والسنة قد وفت وأثبتت فلا حاجة إلى القياس وهو رأي  ابن حزم    . 
وفرقة قالت : بل حرم القول بالقياس . ولو صح ما قاله الظاهري  من أن النصوص وافية بحكم الحوادث لما افتقر في كثير من الحوادث إلى استصحاب الحال وأدلة العقل . 
وقال الدبوسي    : نفاة القياس أربعة : منهم من لا يرى دليل العقل حجة والقياس منه ، ومنهم من لا يراه حجة إلا في موجبات العقول والقياس ليس منها ، ومنهم من لا يراه حجة لأحكام الشرع ، ومنهم من لا يراه حجة فيها إلا عند الضرورة ولا ضرورة لأنا نحكم فيما لا نص فيه باستصحاب البراءة الأصلية . والصحيح أنه حجة أصلية لا حجة ضرورية . وذهب  ابن حزم  إلى قول غريب لم يذهب إليه غيره فيما أظن وهو أن التعبد بالقياس كان جائزا قبل نزول قوله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج    } وقوله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها    } وأما بعدهما فلا يجوز ألبتة لأن وعد الله حق ، فحاصله أنه منسوخ وهو بدع من القول .  [ ص: 28 ] وهذه المذاهب كلها مهجورة وهو خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثبات القياس من الصحابة والتابعين قولا وعملا ، قال الغزالي    : ومن ذهب إلى رد القياس فهو مقطوع بخطئه من جهة النظر ، محكوم بكونه مأثوما . قال القاضي    : ولست أعد من ذهب إلى هذا المذهب من علماء الشرع ولا أبالي بخلافه . قال الغزالي    : " وهو كما قال " . وقال ابن المنير  في شرحه " : ذكر القاضي بكر بن العلاء  من أصحابنا أن القاضي إسماعيل  أمر  بداود  منكر القياس فصفع في مجلسه بالنعال وحمله إلى الموفق بالبصرة  ليضرب عنقه ، لأنه رأى أنه جحد أمرا ضروريا من الشريعة في رعاية مصالح الخلق والجلاد في هؤلاء أنفع من الجدال . انتهى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					