الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 318 ] فصل

                                                      ساق الغزالي في " شفاء العليل " من كلام الشافعي وأصحابه هنا أمرا حسنا ينبغي للفقيه الإحاطة به فقال : قياس الطرد صحيح ، والمعني به التعليل بالوصف الذي لا يناسب ، وقال به كافة العلماء كمالك وأبي حنيفة والشافعي . ومن شنع على القائلين به من علماء العصر القريب كأبي زيد وأستاذي إمام الحرمين ، فهم من جملة القائلين به ، إلا أن الإمام يعبر عن الطرد الذي لا يناسب ب ( الشبه ) ويقول : الطرد باطل والشبه صحيح ، وأبو زيد يعبر عن الطرد ب ( المخيل ) ، وعن الشبه ب ( المؤثر ) ، ويقول : المخيل باطل والمؤثر صحيح . وقد بينا بأصله أنه أراد بالمؤثر ما أردناه بالمخيل ، وسنبين أن القائلين بالشبه المنكرين للطرد مرادهم بالشبه ما أردناه بالطرد ، وأن الوصف ينقسم إلى قسمين : مناسب كما ذكرنا ، وهو حجة وفاقا ، ومنهم من يلقبه بالمؤثر وينكر المخيل . وغير المناسب أيضا حجة إذا دل عليه الدليل ، ومنهم من يلقبه بالشبه ، حتى يخيل أنه غير الطرد وليس كذلك . ( قال ) : ولقد عز على بسيط الأرض من يحقق الشبه .

                                                      ثم قال : فنقول : اختلف الناس في الطرد والعكس ، والشبه ، فمنهم من قال بهما ، ومنهم من أنكرهما ، ومنهم من قال بأحدهما دون الآخر . ونحن نقول : مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي القول بهما جميعا ، فإنهم قالوا بالشبه وهو أضعف من القول بالطرد والعكس . ( قال ) : وقد علل [ به ] الفقهاء كافة سقوط التكرار في مسح الخف ، وشرعيته في غسل الأعضاء فقال أبو حنيفة رحمه الله في مسح الرأس : إنه مسح فلا يكون كمسح الخف . وقال الشافعي : أصل في الطهارة فكرر كالغسل ، وكل منهما طرد محض . وكذلك قوله : طهارتان فأنى تفترقان ؟ [ ص: 319 ]

                                                      ( قال ) : والذي يدل على أن الشافعي لم يذهب في التعليل مسلك الإخالة فصل ذكره في كتاب " الرسالة " ، وقد نقلناه بلفظه قال الشافعي رحمه الله : قال الله تعالى : { والوالدات يرضعن } الآية { وأمر النبي صلى الله عليه وسلم هندا أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها وولدها } ، فكان الولد من الوالد ، فأجبر على صلاحه في الحال التي لا يغني فيها عن نفسه ، وكان الأب إذا بلغ أن لا يغني عن نفسه بكسب ولا مال فعلى ولده صلاحه في نفقته وكسوته ، قياسا على الوالد ، ولم يضع شيئا هو منه ، كما لم يكن للوالد ذلك ، والوالد وإن بعد ، والولد وإن سفل في هذا المعنى ، فقلنا : ينفق على كل محتاج منهم غير محترف ، وله النفقة على الغني المحترف .

                                                      وذكر { حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الغلة بالضمان } فقال : وكأن الغلة لم تقع عليها صفقة البيع فيكون لها حصة في الثمن ، فكانت في ملك المشتري في الوقت الذي لو فات فيه العقد فات في ماله ، فدل أنه إنما جعلها له لأنه حادثة في ملكه وضمانه ، فقلنا كذلك في ثمر النخيل ولبن الماشية وصوفها وأولادها وولد الجارية وكل ما حدث في ملك المشتري وضمانه . وكذلك وطء الأمة الثيب وخدمتها . [ ص: 320 ] { ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذهب بالذهب ، والورق بالورق ، والتمر بالتمر ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح إلا مثلا بمثل ، يدا بيد } ، فلما حرم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأصناف المأكولة التي يشح الناس عليها حين باعوها كيلا لمعنيين :

                                                      أحدهما : أن يباع منها شيء بمثله دينا ، والآخر : زيادة أحدهما على الآخر نقدا ، كان كما كان في معناها ، فحرمنا قياسا عليهما ، فكذلك كل ما أكل مما ابتيع موزونا ، والوزن والكيل في ذلك سواء ، وذلك كالعسل والزبيب والسمن والسكر وغيره مما يكال ويوزن ويباع موزونا ، ولم يقس الموزون على الموزون من الذهب والورق ، لأن يجوز أن يشتري بالدراهم والدنانير نقدا عسلا وسمنا إلى أجل ، ولو قيس عليه لم يجز إلا يدا بيد ، كالدنانير والدراهم . ويقاس به ما كان في معناه من المأكول والموزون لأنه يعتاد الكيل والوزن .

                                                      قال الغزالي : هذا كله نقلناه من لفظ الشافعي فليتأمل المنصف ليعرف كيف علل بهذه الأوصاف [ ما ] لا يناسب ، ذاهبا إلى أن المشارك له في هذه الأوصاف في معناه غير معرج على المناسبة والإيماء .

                                                      ونقل أبو بكر الفارسي من لفظ ابن سريج ، في سياق كلام له في تصحيح التعليل بالاطراد والسلامة عن النواقض فصلا وهو قوله : قلت : فإن قال قائل : إذا ادعيتم أن العلل تستخرج وتصح بالسبر والتقسيم والاطراد في معلولاتها ، فإن عارضها أصل يدفعها علم فساده ، وإن لم يعارضها أصل صحت فأخبروني : إذا انتزعتم علة من أصل ، فانتزع مخالفوكم علة أخرى [ ص: 321 ] فخبرونا : ما جعل علتكم أولى ؟ فإن أحلتم ذلك أريناكم زعم العراقي علة البر أنه مكيل ، فإن ذلك لا ينكر ، وزعم الشافعي أنها الأكل دون الكيل ، فنقول : إنا تركنا جعل كل واحد من هذين الأمرين علة لأنه يخرجنا من قول العلماء الذي احتجنا إلى ترجيح قول بعضهم على بعض ، لأن الشافعي اقتصر على الأكل ، والعراقي على الكيل ، فرجحنا هذه على تلك ، فإنا وجدنا الكيل معناه معنى الوزن ، ووجدنا ما حرم من الذهب والفضة لا يدل على تحريم الموزونات ، وذلك لأن الذهب لا يجوز بالورق نسيئة ، ويجوز الذهب بالموزونات نسيئة ، وقرر هذا الكلام ثم قال : دل هذا على أن الشيء حرام لمعنى فيه ، كالذهب والورق وأنها أصل النقدين وقيم المستهلكات ومنهما فرض الزكوات ، فلم يحرما لأن هاهنا أمرا يعرف به مقدارهما وهو الوزن ، بل لما فيهما من منافع الناس التي يعد لهما [ فيها شيء ] سواهما من التقلب والنقد الذي إليه ترجع المعاملة الدائرة بين الناس . وكذلك البر والشعير إنما حرما لأنهما الأقوات والمعاش والغذاء والطعام . ثم جرد من ذلك كله الأكل كان أعم الأمور . وقد ضم إليها في قول لأصحابنا أجزاء الكيل والوزن . قال الشافعي رحمه الله تعالى في كتاب " البيوع القديم " : وروي عن ابن عباس أنه قال : لا ربا إلا في ذهب أو ورق وما يكال أو يوزن مما يؤكل أو يشرب ، وقول ابن المسيب في هذا أصح الأقاويل .

                                                      قال الغزالي : فهذا جملة ما أردنا نقله من لفظ الشافعي وابن سريج لنبين أن أرباب المذاهب بأجمعهم ذهبوا إلى جواز التعليل بالوصف الذي لا يناسب من غير استناد إلى إيماء ونص ومناسبة : ( قال ) : والفرض الآن أن نبين نقلا عن علماء الشرع كمالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله القول بالوصف الذي لا يناسب ، وتسميتهم ذلك علة . وكذلك تعليل النقدين بالنقدية القاصرة تدل على أن الشافعي لا يقتصر على التشبيه ، إذ التشبيه إنما يقوم من فرع وأصل ، ولا فرع لهذا الأصل .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية