الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقد اختلفوا في قبوله وقدحه في العلة على مذاهب :

                                                      أحدها : - أنه ليس بمقبول ، لأن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع والأصل في جميع القضايا ، وإنما سوى بينهما في وجه ، ولا يتضمن الجمع بين أسئلة متفرقة ، ولأن المعترض ذكر معنى في جانب الأصل ، وذلك لا يمنع تعليل المعلل بجواز تعليل الحكم بعلتين ، وحكاه في " البرهان " عن طوائف من الجدليين والأصوليين ( قال ) : وإنما يستمر هذا مع القول برد المعارضة في جانب الأصل والفرع جميعا ( قال ) : وهو عند المحصلين ساقط مردود .

                                                      وأما ابن السمعاني فقال : وعند المحققين أنه أضعف سؤال يذكر ، وليس مما يمس العلة التي نصبها المعلل بوجه ما ، لكن نهاية ما في الباب أن الفارق يدعي معنى في الأصل معدوما في الفرع ولم يتعرض للمعنى الذي نصبه المعلل . ويجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين مستقلتين ووجدت إحداهما في الفرع وعدمت الأخرى ، وإحداهما كافية لوجوب الحكم ، وانتفاء إحدى العلتين لا يقتضي انتفاء حكمها إذا خلفتها علة أخرى .

                                                      والثاني : - قال إمام الحرمين ، واختاره ابن سريج والأستاذ أبو إسحاق أن الفرق ليس سؤالا على حياله ، وإنما هو معنى معارضة الأصل بمعنى ، ومعارضة العلة التي نصبها المستدل في الفرع بعلة مستقلة ، والمقصود منه المعارضة . [ ص: 381 ]

                                                      والثالث : قال إمام الحرمين ، وهو المختار عندنا ، وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين : " إنه صحيح مقبول ، وهو إن اشتمل على معنى معارضة الأصل وعلى معارضة علة الفرع بعلة فليس المقصود منه المعارضة ، بل مناقضة الجمع وقال قبل ذلك : ذهب جماهير الفقهاء إلى أنه أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به . هكذا حكاه في " المنخول " عن الجمهور .

                                                      وقال الشيخ أبو إسحاق في " الملخص " : إنه أفقه شيء يجري في النظر ، وبه يعرف فقه المسألة . قال الإمام : لأن شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة ، وحقيقته أن المعلل لا يستقر ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به ، فإذا علل ولم يسبر فعورض بمعنى في الأصل ، فكأنه طولب بالوفاء بالسبر .

                                                      ثم ذكر أنه راجع إلى معنى التعليل ، وذكر أن القاضي استدل على قبوله بأن السلف كانوا يجمعون ويفرقون ، ويتعلقون بالفرق كما يتعلقون بالجمع ، كما في قضية الجارية المرسية التي أجهضت الجنين وقد أرسل إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه يهددها ، فإن عمر رضي الله عنه استشار في ذلك فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : إنما أنت مؤدب ، ولا أرى عليك شيئا . وقال علي رضي الله عنه : إن لم يجتهد فقد غشك ، وإن اجتهد فقد أخطأ ، أرى عليك الغرة .

                                                      وكان عبد الرحمن بن عوف حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب [ ص: 382 ] ضمانا ، وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله ، فاعترضه علي رضي الله عنه بالفرق ، وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست كالتعزيرات التي يجب الوقوف عليها دون ما يؤدي إلى الإتلاف قال : ولو تتبعنا معظم ما يخوض فيه الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وجدناه كذلك .

                                                      وقد بالغ ابن السمعاني في الرد على الإمام في هذا الكلام ، وقال : قوله : شرط صحة العلة خلوها عن المعارضة ليس بشيء ، لأن المعارضة إنما تقدح في حكمين متضادين ، أما إذا ذكرت علتان بحكم واحد فلا يقدح ، ولا يسمى معارضة . وقوله لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كلامه ما عدا علته يقال : من قال هذا ؟ ولأي معنى يجب ؟ وإنما يجب عليه أن يذكر مخيلة في الحكم مناسبة له إذا وجد فيها ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلة . وأما السبر والتقسيم وإبطال ما عدا الوصف الذي ذكره فليس بشيء ( قال ) : وقد نسب هذا إلى الباقلاني رحمه الله ( قال ) : وكل من كلف المعلل هذا أو رام تصحيح العلة بهذا الطريق فقد أعلمنا من نفسه أن الفقه ليس من بابه ولا من شأنه ، وأنه دخيل فيه مدع له . ( قال ) : وقد بان بطلان طريق السبر وقوله : إنه التزام كذلك ليس كذلك ، بل في تعليل المعلل التزام إبطال كل علة سوى علته ، فهذه من الترهات والخرافات . وكذلك قول من يقول : إن تعليل الأصل بعلتين لا يجوز .

                                                      قلت : ولم يتوارد ابن السمعاني مع الإمام على محل واحد ، لأن إمام الحرمين منع اجتماع علتين ، وابن السمعاني يجوزه . ثم قال ابن السمعاني : وأما الذي حكاه عن ابن الباقلاني فقد حاول شيئا بعيدا ، لأن الفرق والجمع على الذي يخوض فيه لم ينقل عن الصحابة أصلا ، وإنما كانوا يتبعون التأثيرات . والذي نقل عن عبد الرحمن بن عوف معنى صحيح ، والذي أشار إليه علي رضي الله عنه في معنى الضمان ألطف منه ، والمراد منه أنه وإن كان يباح له التأديب ولكنه مشروط بالسلامة ، لأنه أمر ليس بحتم [ ص: 383 ] بل يجوز فعله وتركه ، فيطلق فعله بشرط السلامة . ( قال ) : وليس هذا الكلام من الفرق والجمع الذي نحن فيه بشيء ، فلا يدرى كيف وقع هذا الخبط من هذا القائل .

                                                      وإن وقع الفرق فنحن لا ننكر الفرق بالمعاني المؤثرة وترجيح المعنى على المعنى ، وإنما الكلام في شيء وراء هذا ، وهو أن المعلل لما ذكر علة قام له الدليل على صحتها ، ففرق الفارق بين الأصل والفرع بمعنى ، فإن كان فرقا لا يقدح في التأثير الذي لوصف المعلل في الحكم فهو فرق صورة ، ولا يلتفت إليه ، وإن فرق بمعنى مؤثر في حكم الأصل فغايته التعليل بعلتين . وإن بين الفارق معنى مؤثرا في التفريق بين الأصل والفرع فالقادح بيان معنى يؤثر في الفرع يفيد خلاف الحكم الذي أفاده المعنى الأول ، فلا بد لهذا من إسناده إلى أصل ، وحينئذ يكون معارضة ، ولا يكون الفرق الذي يقصد بالسؤال ، ونحن بينا أن المعارضة قادحة . ( انتهى )

                                                      وحاصله أن المعارضة في الفرع لا تسمى فرقا ، ويصير النزاع لفظيا . وأما المعارضة في الأصل فهي مبنية على مسألة التعليل بعلتين . ونقل إلكيا ما حكاه الإمام في استدلال القاضي عن عامة الأصوليين ثم قال : والحق عندنا أن الفرق إنما يقدح إذا كان أخص من جميع العلل ، فإذ ذاك يتبين به فساد الجمع ، إلا أن الفرق ابتداء تعليل في الأصل ، وعكسه في الفرق . ورب فرق يظهر فتخرج علة المعلل عن اعتبارها شرعا ، وحينئذ فيلحق تعليل المعلل بالطرد ، فإنه أخص من الجمع على كل حال ، فإن كان الجمع مثلا للفرق أو أخص فلا نبالي به ، كقول المالكي في الهبة : عقد تمليك ترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك بالمعاوضة ، فيقول الفارق : المعاوضة يتضمنها النزول عن العوض والرضا بالمعوض ، وذلك يحصل بنفس العقد ، والهبة قد عارت بها . فالمعلل يقول : تلك الصيغة مطرحة فيضطرب النظر فيها .

                                                      [ ص: 384 ] قال ) وحرف المسألة أن نكتة الفرق كونه أخص من الجمع ، والجمع أعم ، فإذا في الفرق ثلاثة مذاهب أصحها أن الفرق يرجع إلى قطع الجمع من حيث الخصوصية .

                                                      و ( الثاني ) إبطال الفرق من جهة كونه معارضة في جانب الأصل والفرع ، والمعارضة باطلة .

                                                      و ( الثالث ) أنه مقبول من جهة كونه قدحا في غرض الجمع . وهذا ملخص من كلام إمام الحرمين ، فإنه ذكر ما حاصله أن الفرق إما أن يلحق الجامع بوصف طردي ، أو لا .

                                                      و ( الأول ) مقبول بالاتفاق . ومن علامته أن يقيد الفارق جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ، كقول الحنفي في البيع الفاسد : معاوضة عن تراض فتفيد الملك ، كالصحيح . فيقول المعترض : المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع فنقلت الملك بالشرع ، بخلاف المعاوضة الفاسدة .

                                                      و ( الثاني ) هو محل الخلاف ، كقول المالكي في الهبة ، يحصل فيها الملك فيه بالصيغة بلا قبض ، لأنه عقد تملك ، فيحصل الملك فيه بالصيغة كالبيع ، فيقول الفارق : المعاوضة تتضمن النزول عن الشيء بعوض ، فتضمن الإيجاب والقبول الرضا من الجانبين بخلاف الهبة فإنه نزول بغير عوض فافتقر إلى القبض ليدل على الرضا . فهذا النوع هو موضع الخلاف . فمن رد المعاوضة في الأصل أو في الفرع أو أحدهما رده . وقيل بقبوله على أنه معارضة ، والمختار قبوله لحاجة . وهي مناقضة فقهية للجمع .

                                                      ثم أتى الإمام بعد ذلك بكلام جامع فقال : الفرع والجمع إن ازدحما على أصل وفرع في محل النزاع ، فالمختار فيه عندنا اتباع الإحالة . فإن كان الفرق أصلا علل الجمع وعكسه ، وإن استويا أمكن أن يقال هنا بالعلتين المتناقضتين وإذا بنينا على صيغة التساوي أمكن أن يقدم الجمع من جهة وقوع [ ص: 385 ] الفرق بعده غير مناقض له ( قال ) : وهذا كله إذا كان الفرق لا يحيط فيه الجمع بالكلية . فإن أبطله فقد تبين أن ما ذكره المستدل من الجمع ليس بصحيح ، فيكون مقبولا قطعا .

                                                      والحاصل أنه إن أبان الفرق أن الجامع طردي فلا خلاف في قبوله . وينبغي أن يأتي فيه خلاف من القائلين برد الطردي . وإن لم يبين ذلك ففيه مذهبان : ( أحدهما ) أنه مردود مطلقا . و ( ثانيهما ) أنه مقبول . ثم اختلف القائلون به : فقيل : لا من جهة كونه فرقا ، بل من جهة كونه معارضة ، وهو مذهب ابن سريج ، والمختار أنه لنفسه وليس القصد منه المعارضة .

                                                      ثم قيل : هو أضعف سؤال يذكر ، وحكاه ابن السمعاني عن المحققين . والمختار أنه من أقوى الأسئلة .

                                                      ثم قيل : هو سؤالان وهو مذهب ابن سريج ، لاشتماله على معارضة علته للأصل بعلة ، ثم معارضة علته للفرع بعلة مستقلة في جانب الفرع . والمختار - كما قاله في " المنخول " - أنه سؤال واحد ، لاشتماله على اتحاد المقصود وهو الفرق وإن تضمن الإشعار بمنع العلة في الأصل ودعوى علة أخرى فيه ومعارضة في الفرع بعكس المدعي في الأصل . إلا أن يريد الفارق وصفا آخر في جانب الفرع عند عكسه فيكون معارضا وتتعدد .

                                                      والمختار على القول بجواز القياس على أصول متعددة ، قبول فروق متعددة ، إذ قد لا يساعد الفارق في الفرق الإتيان بمعنى واحد متناول لجميع الأصول . وقد ذكر جمهور الأصوليين أن الخلاف في قبول الفرق مبني على جواز تعليل الحكم بعلتين مستنبطتين . فمن جوزه قال : لا يقدح الفرق في العلية فلا يفسد قياسه ولا جمعه بعلية الفرق لجواز ثبوت الحكم بعلة أخرى . ومن منعه فهو قائل بالعكس فيقدح الفرق حينئذ ويبطل القياس . وقال إمام الحرمين : القائل بأن الحكم يعلل بعلتين لا يلزم من ذلك أن يجعل جوابا عن الفرق بل عليه أن يبين عدم إشعاره بإثارة الفرق ويرجح مسلك الجامع من طريق الفقه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية