الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      رابعها : أن يكون الحكم ثابتا بالنص وهو الكتاب والسنة ويعرف حكمه بالنص والظاهر والعموم ، فأما ما عرف الحكم منه بالمفهوم والفحوى فهل يجوز القياس عليه ؟ لم يتعرضوا له ، ويتجه أن يقال : إن قلنا : إن حكمها حكم النطق فواضح ، وإن قلنا : إنه كالقياس فيلحق به فيما سيأتي . وأما ما ثبت بالإجماع فهل يجوز القياس عليه ؟ فيه وجهان : أصحهما ، كما قاله الشيخ أبو إسحاق وابن السمعاني : الجواز ، وحكاه ابن برهان عن جمهور الأصحاب . والثاني : لا يجوز القياس عليه ما لم يعرف النص الذي أجمعوا لأجله ، قال ابن السمعاني : وهذا غير صحيح ، لأن الإجماع أصل في إثبات الأحكام كالنص ، فإذا جاز القياس على الثابت بالنص جاز على الثابت بالإجماع . [ ص: 106 ] قال ابن برهان : وشبهة المانع احتمال كون علة الحكم المجمع عليه قاصرة لا تتعدى . وجوابها : إنما نعلل بعلة متعدية إلى الفرع ، وإثبات الحكم بعلة قاصرة ومتعدية جائز . وهذا يلتفت إلى أصل ، وهو أن الحكم إذا انعقد الإجماع عليه وعلى علته هل يجوز تعليله أم لا ؟ فعندنا : يجوز ، لأن الإجماع انعقد على الحكم لا على العلة ، لأنها من قبيل العقليات وهو لا يثبت بالإجماع انتهى . وأما ما يثبت بالقياس على غيره فأطلق الآمدي والرازي وأتباعهما أنه لا يجوز أن يكون الدليل الدال على حكم الأصل قياسا عند الجماهير من أصحابنا وغيرهم ، خلافا لبعض الحنابلة والمعتزلة . ومنهم من عبر عنه بأن لا يكون ذلك الأصل فرعا لأصل آخر . فاحتجوا على المنع بأن العلة الجامعة بين القياسين إن اتحدت كان ذكر الأصل الثاني تطويلا بلا فائدة لأنه يستغنى بقياس الفرع الثاني على الأصل الأول ، فلا معنى لقياس الذرة على الأرز بقياس الأرز على البر . وإن اختلفت لم ينعقد القياس الثاني ، لعدم اشتراك الأصل والفرع فيه في علة الحكم . لكن نقل ابن برهان عن الحنفية منع القياس على الحكم الثابت بالقياس ; قال : ويساعدهم من أصحابنا أبو بكر الصيرفي . وجمهور أصحابنا على الجواز قال : وحرف المسألة : جواز تعليل الحكم بعلتين : قلت : وظاهر كلام الشافعي رحمه الله في " الأم " المنع ، فإنه قال في كتاب المزارعة من [ ص: 107 ] اختلاف العراقيين : إن المساقاة على النخل جائزة ، والمزارعة على الأرض البيضاء ممتنعة ، وإن من أجازها قاسها على المضاربة ، فقال ما نصه : وهذا غلط في القياس ، إنما أجزنا بخبر المضاربة . وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنها كانت قياسا على المعاملة في النخل فكانت تبعا قياسا ، لا متبوعا مقيسا عليها . انتهى . وأما الشيخ في " اللمع " فإنه قسم المسألة إلى قسمين :

                                                      أحدهما : أن يستنبط من الثابت بالقياس نفس المعنى الذي يثبت به ويقاس عليه غيره . قال : وهذا لا خلاف في جوازه .

                                                      والثاني : أن يستنبط منه معنى الذي يقيس به على غيره ويقاس غيره قال : وهذا فيه وجهان :

                                                      أحدهما : وبه قال أبو عبد الله البصري : الجواز ، ونصره الشيخ في " التبصرة " .

                                                      والثاني : وبه قال الكرخي : المنع . قال الشيخ : وهو يصح عندي الآن لأنه يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علة الأصل وذلك لا يجوز وكذا صححه في القواطع ولم يذكر الغزالي غيره . ومثاله قياس الأرز على البر بعلة الطعم من يستخرج من الأرز معنى لا يوجد في البر ويقاس عليه غيره في الربا ، كما لو استنبط منه أنه نبت لا ينقطع عنه الماء ثم يقاس عليه النيلوفر . فهذا موضع الخلاف . وقد صرح الماوردي بالقسمين في باب الربا ، واقتضى كلامه أنه لا خلاف في جواز الأول ، وحكى الوجهين في الثاني من غير ترجيح وقال : وأصلهما القول بالتعليل بعلتين ، فمن قال بالمنع منع هنا ، ومن أجازهما أجاز هاهنا . لكن قوله وقول الشيخ : لا خلاف في جواز إلحاقه رده تعليلهم بأنه عند اتحاد العلة تطويل بلا فائدة ، وعلى أن الغزالي قد صرح في هذه الصورة بالمنع ، لأن تطويل الطريق في ذلك عيب فلم يجز ، وهذا هو المتجه . ثم قال الشيخ في شرحه : وهذان الوجهان [ ص: 108 ] هما الوجهان في قياس الشبه ، لأنه يرجح بمجرد الشبه من غير علة . وفيما ذكره نظر ، وينبغي أن يكون محل هذا الشرط ما إذا لم يظهر للوسط فائدة ، فإن ظهر فلا يمتنع قياس الفرع على الفرع . وكتاب السلسلة " للشيخ أبي محمد مبني على ذلك . وهذا كله بالنسبة إلى الناظر : أما المناظر فبحسب ما يصطلحون عليه . وأما أرباب المذاهب فأقوال مقلديهم وإن كانت فروعا تنزل بالنسبة إلى المقلدين منزلة أقوال الشارع عند المجتهدين ، فإذا حفظ من إمامه فتيا وفهم معناها جاز له أن يلحق بها ما يشابهها على الصحيح ، خلافا لمحمد بن يحيى ، وهو المعبر عنه " بالتخريج " وجعل إلكيا محل الخلاف في هذا فيما لم يكن الحكم في الفرع بنص أو دليل نص يستدل به على مثله ، ويكون الفرع الثاني مثلا ، فإن كان كذلك فلا يمتنع منه قطعا كما أن الحكم ثبت بالنص ومع ذلك يمتنع حمل الفرع عليه بعلة ، فرجع حاصل الخلاف إلى أن الذي ثبت بالقياس لا يجوز أن يجعل أصلا وما لا يثبت بالقياس من المختلف فيه يجوز أن يجعل أصلا إذا كان ثبوته بعموم أو نص أو غيره ، لأنه يخرج بذلك عن كونه فرعا ثابتا بالقياس قال : وهذا قول الأصوليين وهو يستدعي البناء على أصل وهو أن الحكم الواحد هل يجوز إثباته بعلتين مختلفتين ؟ فإن قلنا : يمتنع ، نشأ منه أن الفرع لا يجوز أن يجعل أصلا لفرع آخر .

                                                      تنبيه

                                                      إذا منعنا أن يكون حكم الأصل قياسا ، يستثنى منه صورتان :

                                                      إحداهما : القياس الذي قاسه النبي صلى الله عليه وسلم إذا جوزنا له الاجتهاد . [ ص: 109 ]

                                                      والثانية : التي أجمعت الأمة على إلحاقه بالأصل ، ذكره الغزالي في مسألة الاجتهاد وستأتي .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية