الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      الموضع الثاني [ أقسام المناسب من حيث الحقيقة والإقناع ]

                                                      إنه ينقسم إلى حقيقي وإقناعي . والحقيقي ينقسم إلى ما هو واقع في [ ص: 266 ] محل الضرورة ، ومحل الحاجة ، ومحل التحسين .

                                                      الأول - الضروري : وهو المتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع ، بل هي مطبقة على حفظها ، وهي خمسة :

                                                      أحدها - حفظ النفس : بشرعية القصاص ، فإنه لولا ذلك لتهارج الخلق واختل نظام المصالح .

                                                      ثانيها - حفظ المال : بأمرين :

                                                      ( أحدهما ) إيجاب الضمان على المعتدي فيه فإن المال قوام العيش .

                                                      ( وثانيهما ) بالقطع بالسرقة .

                                                      ثالثها - حفظ النسل : بتحريم الزنى وإيجاب العقوبة عليه ، فإن الأسباب داعية إلى التناصر والتعاضد والتعاون الذي لا يتأتى العيش إلا به عادة .

                                                      رابعها : حفظ الدين : بشرعية القتل والقتال ، فالقتل للردة وغيرها من موجبات القتل ، لأجل مصلحة الدين ، والقتال في جهاد أهل الحرب .

                                                      خامسها - حفظ العقل : بشرعية الحد على شرب المسكر ، فإن العقل هو قوام كل فعل تتعلق به مصلحة ، فاختلاله مؤد إلى مفسدة عظمى . هذا ما أطبق عليه الأصوليون . وهو لا يخلو من نزاع ، فدعواهم إطباق الشرائع على ذلك ممنوع . [ ص: 267 ] أما من حيث الجملة فلأنه مبني على أنه ما خلا شرع عن استصلاح ، وفيه خلاف سبق في الكلام على أن الحكم لا بد له من علة . والأقرب فيه الوقف . وأما من حيث التفصيل : فأما ما ذكروه من القصاص فيرده أن القصاص إنما علم وجوبه في شريعة موسى عليه السلام بدليل قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } وذلك لا يوافق قولهم : يلزم من عدم مشروعية القصاص بطلان العالم . فأما ما ذكروه في الخمر فليس كذلك ، فإنها كانت مباحة في صدر الإسلام ، ثم حرمت في السنة الثالثة بعد غزوة أحد : قيل : بل كان المباح شرب القليل الذي لا يسكر ، لا ما ينتهي إلى السكر المزيل للعقل ، فإنه يحرم في كل ملة .

                                                      قاله الغزالي في شفاء العليل " ، وحكاه ابن القشيري في تفسيره " عن القفال الشاشي ثم نازعه وقال : تواتر الخبر حيث كانت مباحة بالإطلاق ، ولم يثبت أن الإباحة كانت إلى حد لا يزيل العقل . وكذا قال النووي في شرح مسلم " . فأما ما يقوله بعض من لا تحصيل عنده أن المسكر لم يزل محرما فباطل لا أصل له . انتهى . وقد ناقشهم الأصفهاني صاحب النكت " من جهة أخرى ، وهي أن المحافظة على مقصود الشرع إنما تحصل بإيجاب القصاص والحد ، لا بالقتل والسرقة ، لأن هذه الأشياء تخل بمقصود الشرع فيكون المناسب هو الحكم المتضمن للمحافظة على المقصود ، لا الوصف وهو السرقة والقتل والردة . وهذا باطل ، لأن المناسبة صفة السرقة والردة . وغيرها ، لأنه يقال : السرقة تناسب القطع ، والقتل يناسب القصاص ، ولا يقال : إيجاب القصاص مناسب . وقد زاد بعض المتأخرين ( سادسا ) وهو : حفظ الأعراض ، فإن [ ص: 268 ] عادة العقلاء بذل نفوسهم وأموالهم دون أعراضهم ، وما فدي بالضروري أولى أن يكون ضروريا . وقد شرع في الجناية عليه بالقذف الحد ، وهو أحق بالحفظ من غيره ، فإن الإنسان قد يتجاوز من جنى على نفسه وماله ، ولا يكاد أحد يتجاوز عن الجناية على عرضه ، ولهذا كان أهل الجناية يتوقعون الحرب العوان المبيدة للفرسان لأجل كلمة ، فهؤلاء عبس وذبيان استمرت الحرب بينهم أربعين سنة لأجل سبق فرس فرسا ، وهما داحس والغبراء ، وإليهما تضاف هذه الحرب ، وذلك لأن المسبوق ، وهو حذيفة بن بدر ، اعتقد مسبوقيته عارا يقبح عرضه . ويلتحق بهذا القسم مشكل الضروري ، كحد قليل المسكر ووجوب الحد فيه ، وتحريم البدعة والمبالغة في عقوبة المبتدع الداعي إليها ، وفي حفظ النسب بتحريم النظر والمس ، والتعزير على ذلك .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية