الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      النوع الثاني قياس الشبه قالا : وهو ما أخذ حكم فرعه من شبه أصله ، وقالا في موضع آخر : هو ما تجاذبه الأصول فأخذ من كل أصل شبها ، وسماه الشيخ أبو إسحاق وغيره " قياس الدلالة " وفسره بأن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه على العلة التي علق الحكم عليها في الشرع قال : وهذا الضرب لا تعرف صحته إلا باستدلال الأصول وهو على ثلاثة أضرب : أحدها : أن يستدل بثبوت حكم من أحكام الفروع على ثبوت الفرع ، ثم رد إلى أصل ، كاستدلالنا على سجود التلاوة ليس بواجب ، بأن سجودها يجوز فعله على الراحلة من غير عذر على أنه ليس بواجب .

                                                      والثاني : أن يستدل بحكم يشاكل حكم الفرع ويجري مجراه على حكم الفرع ، ثم يقاس على أصل ، كقولنا في ظهار الذمي : صحيح لأنه يصح طلاقه ، فيصح ظهاره ، فصحة قياس الطلاق على صحة الظهار لأنهما يجريان مجرى واحدا ، ألا ترى أنهما يتعلقان بالقول ويختصان بالزوجة ، فإذا صح ذلك دل على صحة الآخر .

                                                      والثالث : أن يحمل الفرع على الأصل بضرب من الشبه ، كقياس من قال : إن العبد يملك . لأنه آدمي مخاطب مثاب معاقب ، فملك كالحر . [ ص: 54 ]

                                                      قال : فهذا وأمثاله يسمى " قياس الشبه " وفي صحته وجهان : أحدهما : يصح ، لأن عمر أمر أبا موسى باعتباره ، والثاني : المنع ، لأنه لو جاز رد الفرع إلى الأصل بالشبه لوجب أن يصح كل قياس لأنه ما من فرع إلا ويمكن رده إلى أصل بضرب من الشبه . انتهى . وقال الشيخ في " اللمع " : اختلف أصحابنا في قياس الشبه ، وهو تردد الفرع بين أصلين لشبه أحدهما في ثلاثة أوصاف والآخر من وصفين فقيل : صحيح ، وللشافعي ما يدل عليه في أوائل " الرسالة " وأواخرها . وقيل : لا يصح ، وتأول ما قاله الشافعي على أنه أراد به أن يرجح به قياس بكثرة الأشباه . ثم اختلف القائلون به في أنه هل يجب أن يكون حكما وأن يكون صفة ؟ على قولين قال : والأشبه عندي أن قياس الشبه لا يصح .

                                                      وقال ابن القطان : قياس الشبه اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه :

                                                      أحدها : أن الشبه يعتبر في الصورة أخذا من قول الشافعي في الجنايات إن العبد إذا جني عليه اعتبرت قيمته بالحر لوقوعه بين أصلين :

                                                      أحدهما : البهيمة ، لأنه سلعة فيتصرف فيها .

                                                      والثاني : الحر لأنه آدمي متعبد . وقيل : هذا خطأ ، لأن القياس لا يصح حتى تستخرج العلة من المنصوص عليه ، فيؤخذ في الفرع أكثر الأوصاف ، فيلحق حكمه بحكم ذاك الأصل ، وهذا لا ينقض به حكم الحاكم إذا خالف . وإن كان هناك [ ص: 55 ] علة أخرى توجب التحليل بها خمسة أوصاف ، وعلة توجب التحريم بها خمسة أوصاف فيوجد فيها من أوصاف العلة المبيحة أكثر من المحرمة فيلحق ذلك بحكم التعليل ، لأنه أكثر شبها . فإنه لو قيل : فما تقولون لو تساوى الجريان في الأصلين وتساوت الأوصاف ؟ قلنا : عنه جوابان أحدهما : يتوقف فيه لأنهما يتساويان وليس لأحدهما مزية على الآخر ، وهذا أشبه من الأول .

                                                      والثالث : أن قياس الشبه أن تكون المسألة محتملة فتتحد بها فتقوم الدلالة على إلحاقها بأحد الأصول هو الأشباه . انتهى .

                                                      وقد وقع في كلام الشافعي رحمه الله ذكر " قياس علة الأشباه " فقيل هو قسيم " قياس العلة " وقيل هو " قياس العلة " إلا أنه جعل كثرة الأشباه ترجيحا للعلة وقال القاضي في " التقريب " : ظاهر نص الشافعي يدل على الأول قال : وحكى أن أبا العباس بن سريج كان يقول : إن غلبة الأشباه هي العلة وإن الأشباه ثلاثة ما حكم فيه بالتحريم وله وصفان ، وما حكم فيه بالتحليل وله وصف واحد وواسطة بينهما لم يحكم فيه بشيء . قال : فإذا تردد بينهما كان رده إلى أشبههما أولى من رده إلى أبعدهما منه في الشبه . قال القاضي : وهذا محتمل لأن يكون ممن يرى الحكم بغلبة الأشباه من غير اعتقاد كونه علة ، ويحتمل أن يريد أن ردها إلى ما هو علة الحكم أولى من رده إلى ما بعد أن يكون علة . وقد قيل : إن هذا الذي كان يذهب إليه أبو العباس وأنكر القياس على شبه لم يعتبر كونه علة وقال الخفاف في " الخصال " : علة غلبة الأشباه صحيحة ، والحكم بها جائز إذا كانت علة ما وصفنا ، غير أنه لا يجوز الحكم فيها مع وجود العلة المستخرجة .

                                                      وأما الماوردي والروياني ففسرا قياس الشبه بما تقدم ، وقسماه إلى نوعين : قياس تحقيق يكون الشبه في أحكامه ، وقياس تقريب يكون الشبه في أوصافه . وقياس التحقيق مقابل لقياس المعنى الخفي وإن ضعف عنه . [ ص: 56 ]

                                                      ( الأول ) قياس التحقيق وهو ثلاثة أقسام :

                                                      أحدها : أن يتردد حكم فرع بين أصلين فينتقض برده إلى أحدهما ولا ينتقض برده إلى الآخر ، فيرده إلى الأصل الذي لا ينتقض برده إليه ، وإن كان أقل شبها دون الآخر ، وإن كان أكثر شبها ، كالعبد يملك ، يتردد بين البهيمة والحر فلما انتقض رده إلى الميراث حيث لم يملك به وجب رده إلى البهيمة لسلامته من النقض ، وإن كان شبهه بالأحرار أكثر .

                                                      والثاني : أن يتردد الفرع بين أصلين ، فيسلم من النقض رده إلى كل واحد منهما ، وهو بأحد الأصلين أكثر شبها ، مثل أن يشبه أحدهما من وجه والآخر من وجهين ، أو أحدهما من وجهين والآخر من ثلاثة ، فيرد إلى الأكثر . مثاله في الجناية على طرف العبد فيردده بين رده إلى الحر وإلى البهيمة ، وهو يشبه البهيمة في أنه مملوك ، ويورث عينه ، ويشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مكلف يجب في قتله القود والكفارة وجب رده إلى الحر في تقدير أرش طرفه دون البهيمة لكثرة شبهه بالحر .

                                                      الثالث : أن يتردد حكم الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين ، ويوجد في الفرع بعض كل واحد من الصفتين والأقل من الأخرى ، فيجب رده إلى الأصل الذي فيه أكثر صفاته ، مثاله ثبوت الربا في السقمونيا ، لما تردد بين الخشب في الإباحة ، لأنه ليس بغذاء ، وبين الطعام في التحريم ، لأنه مأكول ، فكان رده إلى الغذاء في التحريم وإن لم يكن غذاء أولى من رده إلى الخشب في الإباحة وإن لم يكن غذاء لأن الأكل أغلب صفاته .

                                                      الثاني : قياس التقريب وهو ثلاثة أضرب :

                                                      أحدها : تردد الفرع بين أصلين مختلفين صفة ، وقد جمع الفرع معنى الأصل فيرجع في الفرع إلى أغلب الصفتين ، مثاله في المعقول أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والآخر معلولا بالسواد ، ويكون الفرع جامعا بين [ ص: 57 ] السواد والبياض فيعتبر بحاله ، فإن كان بياضه أكثر من سواده رد إلى الأصل المعلول بالبياض ولم يكن للسواد فيه تأثير ، وإن كان سواده أكثر من بياضه رد إلى الأصل المعلول بالسواد ولم يكن للبياض فيه تأثير ، ومثاله في الشرع الشهادات ، أمر الله تعالى فيها بقبول العدل ورد الفاسق ، وقد علم أن أحدا غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يمحض الطاعة حتى لا يشوبها شيء ويخرمها ، فوجب اعتبار الأغلب في حالتيه : فإن كانت الطاعات أغلب حكم بعدالته ، أو المعاصي أغلب حكم بفسقه . وقال أبو حنيفة رحمه الله : هذا الضرب لا يسمى قياسا ، لأن القياس ما استخرج علة فرعه من أصله ، وهذا قد استخرج علة أصله من فرعه ، ولأن القياس إنما يصح إذا كان معنى الأصل موجودا بكماله من الفرع ، فإذا وجد بعض أوصافه لا يصح إلحاقه به . وهذا غلط لأن صفة العلة مستخرجة من الفرع وحكم العلة مستخرج من الأصل ، فالجمع بينهما موضوع بحكم العلة دون صفتها . وهذا كما تقول في الماء المطلق : إذا خالطه مائع طاهر كماء الورد ولم يغيره نظر : إن كان الماء أكثر حكمنا له بالتطهير وإن كان فيه ما ليس بمطهر ، وإن كان ماء الورد أكثر حكمنا أنه غير مطهر وإن كان فيه ماء طهور ، وأن الحادثة أشبهت كل واحد من الأصلين في بعض الأوصاف فلا بد من تعريف حكمها ، ولا يجوز إلحاقها بغير هذين الأصلين ، لأنه لا يجوز إلحاقها بما لا يشبهها وتركه ما يشبهها ، ولا إلحاقه بهما لتضادهما فكان أكثرها شبها أولى .

                                                      وقال القاضي أبو الطيب الطبري : هذا النوع في القياس ضعيف ، لأنه يقاس على ما يلحق به من غير علة ، وذلك لا يجوز ولا يخلو الوصف الذي أشبه الأصل فيه من أن يكون علة الأصل ، أو ليس بعلة ، فإن كان علة فهو قياس العلة لا قياس الشبه ، وإن لم يكن علة فلا يصح القياس بغير علة قال : ومعنى هذا عندك إذا تردد فرع بين أصلين وقاسه في كل واحد [ ص: 58 ] من الأصلين على أصله بعلة ظاهرها الصحة يحتاج إلى الترجيح لتغليب أحد الأوصاف لكثرة الشبه ، فيكون ذلك على سبيل الترجيح .

                                                      الثاني : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين ، والصفتان معروفتان في الفرع ، وصفة الفرع تقارب إحدى الصفتين وإن خالفتها . مثاله في المعقول أن يكون أحد أصلين معلولا بالبياض ، والآخر بالسواد ، والفرع أخضر لا أبيض ولا أسود ، فرد إلى أقرب الأصلين شبها بصفتيه والخضرة أقرب إلى السواد ، ومثاله في الشرع قوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل من النعم } وليس المثل من النعم شبيها بالصيد في جميع أوصافه ولا منافيا له في جميعها ، فاعتبر في الجزاء أقرب الشبه بالصيد . وقال أبو حنيفة رحمه الله : مثل هذا لا يكون قياسا ، لأن القياس : ما وجدت أوصاف أصله في فروعه ، وأوصاف الأصل في هذا غير مقصودة في الفرع ، فصار قياسا بغير علة . وهذا غلط ، لأن الحادثة لا بد لها من حكم ، والحكم لا بد له من دليل ، فإذا لم يكن في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع دليل عليها لم يبق لها أصل غير القياس كما في أقربهما شبها بأصل هو علة القياس . وقد جعله بعض أصحابنا اجتهادا محضا ولم يجعله قياسا .

                                                      والثالث : أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفين ، والفرع جامع لصفتي الأصلين وأحد الأصلين من جنس الفرع دون الآخر . ومثاله أن يكون الفرع من الطهارة ، وأحد الأصلين من الصلاة ، والثاني من الطهارة . فيكون رده إلى أصل الطهارة لمجانسته أولى من رده إلى أصل الصلاة . ثم قالا : وهاهنا قسم رابع : اختلف أصحابنا في وروده ، وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيه شبه كل واحد من الأصلين ، ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء ، فمنع كثير من أصحابنا من وجوده وأحال تكافؤ الأدلة ، لأنه لا يجوز أن يتعبد الله العباد بما لم يوصلهم إلى علمه ، ولكن ربما خفي [ ص: 59 ] على المستدل لقصوره في الاجتهاد فإن أعوزه الترجيح بين أصلين عدل إلى التماس حكمه من غير القياس . وذهب الأكثرون إلى جواز وجوده ، لأنه لما جاز أن يكون من الأدلة غامضة لما علم فيها من المصلحة جاز أن يكون فيها متكافئة لما رآه من المصلحة أن يكون لها حكم مع التكافؤ . فعلى هذا اختلفوا في حكم ما تكافأت عليه الأدلة ، وتردد بين أصلين حاظر ومبيح على وجهين :

                                                      أحدهما : المجتهد بالخيار في رده إلى أي الأصلين شاء ، لأن الله تعالى لو لم يرد كل واحد منهما لنصب على مراده منهما دليلا . والثاني : يرده إلى أغلظ الأصلين حكما وهو الحظر دون الإباحة احتياطا ، لأن أصل التكليف موضوع للتغليظ .

                                                      قالا : فصار أقسام القياس على ما شرحنا اثني عشر قسما : ستة منها مختصة بقياس المعنى ، منها ثلاثة في الخفي . وستة مختصة بقياس الشبه ، منها ثلاثة في قياس التحقيق ، وثلاثة في قياس التقريب .

                                                      وذكر إمام الحرمين قياس التقريب بما حاصله يرجع إلى أنه استدلال من غير بناء فرع على أصل ، ومن جملة كلامه قال : قد ثبت أصول معللة اتفق القائسون على عللها ، فقال الشافعي : الحد في تلك الأصول معنوي ، وجعل الاستدلال قريبة منها وإن لم يكن بأعيانها حتى كأنها أصول معتمدة مثلا ، والاستدلال معتبر بها ، واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة لمعنى جامع . ثم مثل الإمام ذلك بتحريم وطء الرجعية بأنه معلل عند الشافعي بأنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتربص للتبرئة تناقض ، وهذا معنى [ ص: 60 ] معقول . وأن المرأة لو تربصت قبل الطلاق واعتزلها الزوج لم يعتد بذلك عنده ، ولو طلب الشافعي لهذا أصلا لم يجده ، ولكنه قريب من القواعد . ومن قاس الرجعية على البائن لم يتم له ذلك ، لأن المخالف يقول : البينونة هي المستقلة بتحريم الوطء والرجعية ليست مثلها .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية