الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقسم ابن القطان النقض إلى أربعة أقسام :

                                                      أحدها : أن تكون العلة منتقضة على أصل السائل والمسئول ، فلا خلاف أنه ليس للسائل أن يسأل عنها ، لأنهما قد اتفقا على إبطالها .

                                                      ثانيها : أن تكون صحيحة على أصلهما جميعا ، فلا خلاف أنه يلزم المسئول المصير إليها ، إلا أن يدفعها بوجه من وجوه الإبطال . كقول العراقي [ ص: 337 ] يسأل الشافعي عن المتكلم في الصلاة ساهيا فقال : لم تبطل صلاته قياسا على من وطئ في حجه ناسيا . لأنا قد اتفقنا على بطلانه ، لأنه لو تعمد بطل . فللشافعي أن يقول : هذا لا يلزم ، لأنه لا يصح على أصلي ، لأن من أصلي أن من وطئ في صومه وأكل ناسيا لم يبطل . ولو وطئ عامدا يبطل . وليس المقصود غير هذه العلة . فإن قال السائل : إني ألزمتك هذا لتقول به في كل فروعك ، فللمسئول أن يقول : لا يلزمني - لأن من شرط السائل أن يسلم للمسئول أصوله كلها ما خلا المسألة المختلف فيها .

                                                      وثالثها : أن تكون العلة جارية على أصل المسئول منتقضة على أصل السائل ، كالعراقي يسأل الشافعي عن الحائض إذا انقطع دمها هل يجوز للزوج أن يقربها ؟ فقال : لا . فقال له السائل : لم قلت بالجواز ؟ ويكون دليل ذلك أنا قد اتفقنا على أن يجوز لزوجها أن يقربها ، وكان المعنى في ذلك جواز الصوم لها ، وكل من جاز له الصوم جاز له القربان . فللشافعي أن يقول : لا يلزم ، لأن هذه العلة وإن كانت جارية على أصلي فهي باطلة على أصلك فلا يجوز لك إلزامها . وذلك أن دمها لو انقطع دون العشر عندك لجاز لها أن تصوم ولم يجز لزوجها أن يقربها . وقال القاضي أبو الطيب الطبري : لا يجوز للمسئول أن ينقض علة السائل بأصل نفسه ، وأجازه بعض الحنفية ، وكان الجرجاني منهم يستعمله . وذكره في تصنيفه المسمى ب " التهذيب " . قال القاضي : وسألت القاضي أبا بكر الأشعري عن ذلك فقال : له وجه في الاحتمال ، مثل أن يقول : مهر المثل يتنصف بالطلاق قبل الدخول ، لأنه يستقر بالدخول ، فوجب أن يتنصف بالطلاق قبله أصله المسمى في العقد ، فيقول المسئول من أصحاب أبي حنيفة : هذا ينتقض على أصلي بالمسمى بعد العقد ، فإنه يستقر بالوطء ولا يتنصف بالطلاق قبله وإنما يسقط جميعه كما يسقط جميع مهر المثل . أو يقول المخالف : لا يجب للمتوفى عنها زوجها السكنى ، لأنه لا نفقة لها ، قياسا على المعتدة من وطء الشبهة ، فيقول الشافعي : هذا ينتقض بالمطلقة البائن الحائل ، فإنه لا نفقة لها ويجب السكنى . [ ص: 338 ]

                                                      تنبيهات :

                                                      الأول : كما يجري الخلاف في العلل الشرعية فكذلك يجري في العلل العقلية ، وأنه يتخلف عنها معلولها ، فأجازه الفلاسفة ومنعه المتكلمون . حكاه ابن دقيق العيد رحمه الله . لكن الأستاذ حكى إجماع الجدليين على أن الدليل العقلي لا يخصص ، وعلى أن تخصيصه نقض له ، وعلى أن نقضه يمنع عن التعلق به ، ولذا قال ابن فورك : العلل العقلية لا يجوز تخصيصها بلا خلاف .

                                                      الثاني : أن هذه المسألة من فروع القول بتخصيص العلة ، فإن جوزنا تخصيصها لم يتجه القدح بالنقض ، وإلا اتجه .

                                                      الثالث : ادعى إمام الحرمين في " البرهان " أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا معنوي ، وهو ظاهر كلام ابن الحاجب والبيضاوي أيضا ، وكذلك الغزالي . وأنه يلتفت إلى تفسير العلة بماذا ؟ إن فسرت بالموجبة فلا تتصور عليتها مع الانتقاض ، أو المعرفة فتصورت وليس كذلك فليس الخلاف بلفظي . وله فوائد : ( إحداها ) جواز التعليل بعلتين أم لا ( الثانية ) أن من منع التخصيص لا يجوز أصلا تطرقه إلى نص الشارع على التعليل به . وإن أومئ إليه تبين أن ذلك لم يكن إيماء إلى التعليل لورود التخصيص . والمجوز للتخصيص يقول : يبقى ذلك علة في محله . ذكرها الغزالي في " المنخول " . ( الثالثة ) : انقطاع المستدل ، إن قلنا : يقدح ، وعدم انقطاعه إن منعناه .

                                                      الرابع : هل يسمع من الجدلي قولنا : أردت بالعموم الخصوص أو لا ؟ فالقائلون بتخصيص العلة يسمعونه ، والمانعون لا يسمعونه . وقد نقل [ ص: 339 ] إمام الحرمين في " تدريسه في أصول الفقه " علقه عنه بعض تلامذته ، أن الأستاذ أبا إسحاق قال : إطلاق اللفظ العام والمراد به البعض سائغ . وأما المعلل بلفظ عام فلا يقبل منه إذا نقض عليه كلامه وقال : إنما أردت كذا ، إذ لو جوزنا ذلك لما تصور إبطال علة أصلا . والفرق أن الواحد منا إنما يخاطب ليفهم صاحبه ويفهم عنه ، وصاحب الشرع له أن يبين ويؤخر البيان إلى وقت الحاجة ويخاطب بمحتمل ، ولا يجوز لواحد منا أن يعلل العلة مجملة ويفسرها . ( قال ) : ومن العلماء من جوز ذلك ( قال ) : ومجوزه لا يميز . انتهى .

                                                      وهذا الذي نقله عن الأستاذ قد يستشكل بما حكاه في " البرهان " عن الأستاذ أيضا أنه قال في علة الشارع : يجب اطرادها ولا يجوز أن يرد عليها ما يخالف طردها . وقد يجاب بأن ورودها في كلام الشارع يبين أنه لم يرد محل النقض وأنه إنما جعلها علة فيما وراءه ، وذلك مقبول منه ، بخلاف غيره فإنه لا يسمع منه قوله بعد الإطلاق : إنما أردت أنها علة فيما وراء ذلك المخرج . والحق أنه لا يسمع لأنه كالدعوى بعد الإقرار .

                                                      وقال صاحب " المحصول " : قولهم : إن الخلاف لفظي مردود ، لأنه إذا فسرنا العلة بالداعي أو بالموجب لم نجعل العدم جزءا من العلة ، بل كاشفا عن حدوث العلة ، ومن يجوز التخصيص لا يقول بذلك . وإن فسرنا بالأمارة ظهر الخلاف في المعنى ، لأن من أثبت العلة بالمناسبة بحث عن ذلك القيد العدمي ، فإن وجد فيه مناسبة صحح العلة وإلا أبطلها . ومن يجوز التخصيص لا يطلب المناسبة ألبتة من هذا القيد . وما ذكروا من تكرر وجود الغيم ولا مطر مع أن كونها أمارة لم يزل ، قد رده [ ص: 340 ] ابن السمعاني فقال : الأمارة وإن لم تزل إلا أنه لا بد أن تضعف ، ولا بد في الأمارة من توفر القوة من كل وجه ، لأن هذا ظن يثير حكما شرعيا ، فلا بد من بلوغه نهاية القوة ، وأن لا يتوهم قوة من الظن وراء قوته حتى يعلق به الحكم الشرعي ، وذلك لوجود الاطراد حتى لا تتخلف هذه الأمارة في موضع ما ، فإذا تخلفت لم تتوفر القوة من كل وجه ( قال ) : وهذا جواب حسن اعتمدته ، وهو محل الاعتماد .

                                                      الخامس : إذا ذكر علة فنقض عليه بما خص به النبي صلى الله عليه وسلم ، فهل يلزم ذلك ؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق .

                                                      أحدهما : لا ، لأن المخصوص في حكم المنسوخ فلا تنقض العلة به .

                                                      والثاني : نعم ، لأن نقض العلة بحكم في الشرع ، فأشبه النقض بما لا يخص به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية