الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسلك الثامن الدوران ويعبر عنه الأقدمون ب " الجريان " وب " الطرد والعكس " وهو : أن يوجد الحكم عند وجود وصف ويرتفع عند ارتفاعه في صورة واحدة ، كالتحريم مع السكر في العصير ، فإنه لما لم يكن مسكرا لم يكن حراما ، فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم ، فدل على أن العلة " السكر " .

                                                      وأما في صورتين ، كوجوب الزكاة مع ملك نصاب قام في صورة أحد النقدين ، وعدمه مع عدم شيء منها ، كما في ثياب البذلة حيث لا تجب فيها [ ص: 309 ] الزكاة لفقد شيء مما ذكرناه . ومن أمثلته قوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن اللتبية حين استعمله النبي صلى الله عليه وسلم { وقال : ما بالنا نستعمل أقواما فيجيء أحدهم فيقول : هذا لكم وهذا لي ، ألا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا } وهذا إثبات العلة بالدوران ، وهو ثبوت الحكم عند ثبوت الوصف وانتفاؤه عند انتفائه . واختلف الأصوليون في إفادة الدوران العلية على مذاهب :

                                                      أحدها : أنه يفيد القطع بالعلية ، ونقل عن بعض المعتزلة وربما قيل : لا دليل فوقه ، حكاه ابن السمعاني عن بعض أصحابنا .

                                                      والثاني : أنه يفيد ظن العلية بشرط عدم المزاحم ، لأن العلة الشرعية لا توجب الحكم بذاتها وإنما هي علامة منصوبة ، فإذا دار الوصف مع الحكم غلب على الظن كونه معرفا له وينزل بمنزلة الوصف المومأ إليه بأن يكون علة وإن خلا عن المناسبة . وهو قول الجمهور ، منهم ( إمام الحرمين ) ، ونقله عن القاضي . وممن حكاه عن الأكثرين إلكيا .

                                                      وقال ابن السمعاني : وإليه ذهب كثير من أصحابنا . قال : ولأصحابنا العراقيين شغف به ، وقال الهندي : إنه المختار ، وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي علي بن أبي هريرة ، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن أبي بكر الصيرفي . قال إمام الحرمين : ذهب كل من يعزى إلى الجدل إلى أنه [ ص: 310 ] أقوى ما تثبت به العلل . وذكر القاضي أبو الطيب الطبري أن هذا المسلك من أقوى المسالك وكاد يدعي إفضاءه إلى القطع . وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة وإعلاقه طرفا من كلامه ، ومن عداه حياله .

                                                      قلت : والذي رأيته في " شرح الكفاية " للقاضي أبي الطيب ما لفظه : وأما الطرد فإنه شرط في صحتها ، وليس بدليل على صحتها ، ولا يجوز إذا اطرد معنى أن يحكم بصحته حتى يدل التأثير أو شهادة الأصول عليه . وكذا قال الشيخ أبو إسحاق في " التبصرة " : الطرد والجريان شرط في صحة العلة ، وليس بدليل صحتها . وقيل : دليل على الصحة ، وبه قال الصيرفي ، وقال : إذا لم يرد بها نص ولا أصل دل على صحتها ، وكذا قال ابن الصباغ : هو يدل على صحة العلة . وقال ابن برهان : الطرد عندنا شرط صحة العلة وليس دليلا على صحتها . وذهب بعض القدماء منا ومن الحنفية إلى أنه دليل على صحتها . وقال ابن السمعاني : الاطراد ليس بدليل لصحة العلة ولكن شرط لصحتها . وأما الانعكاس فليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر الأصحاب ، وهو قول جمهور الأصوليين من الفقهاء ، وبه قال بعض المتكلمين قال : وذهب بعض أصحابنا إلى أن الانعكاس شرط ، فإذا ثبت الحكم بوجود العلة ولم يرتفع بارتفاعها بطلت العلة ، وهو قول بعض المعتزلة تعلقا بالعلل العقلية ، فإنه يجب انعكاسها ، فكذلك السمعية . ولنا أن العلة منصوبة للإثبات فلا تدل على النفي .

                                                      والثالث : أنه لا يدل بمجرده لا قطعا ولا ظنا . وهو اختيار الأستاذ أبي منصور وابن السمعاني والغزالي والشيخ أبي إسحاق واختاره الآمدي وابن الحاجب . وقال الشيخ أبو إسحاق في كتاب " الحدود " إنه قول المحصلين . قال إلكيا : وهو الذي يميل إليه القاضي ، ونقله ابن برهان عنه أيضا . واحتجوا بأنه قد وجد مع عدم العلية فلا يكون دليلا عليها . ألا ترى أن المعلول دائر مع العلة وجودا وعدما ، مع أن المعلول ليس بعلة لعلته [ ص: 311 ] قطعا ، والجوهر والعرض متلازمان مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر اتفاقا ، والمتضايفان - كالأبوة والبنوة - متلازمان وجودا وعدما ، مع أن أحدهما ليس بعلة في الآخر لوجوب تقدم العلة على المعلول ووجوب مصاحبة المتضايفين وإلا لما كانا متضايفين .

                                                      وقد ضعف هذا القول ، أعني تجويز أن تكون العلة أمرا وراء المذكور ، فإن هذا لو صح لجرى في غيره من المسائل ، كالإيماء ونحوه . ومن العجيب أن جماعة من القائلين بهذا المذهب اعترفوا بصحة السبر والتقسيم وإن لم تقترن به مناسبة ، وهو راجع للطرد ، فإن غايته أن الأوصاف المقارنة للحكم قام الدليل على خروج بعضها عن صلاحية التعليل ، فعلم صحة التعليل بالباقي ، ولا تجد النصف الباقي سوى مقارنته الحكم في الوجود مع انتقاء الظفر بدليل انتفاء صلاحيته للتعليل ، وذلك مجرد طرد لا عكس فيه ، واذا كان السبر والتقسيم لا يدل إلا على اقتران الحكم بالوصف وجودا علم أن من أخذ به وأنكر الطرد والعكس كمن أخذ بالمقدمة الواحدة وأنكر دلالة المقدمتين ، وكمن أخذ بالكثرة في الألف وأنكرها في الألفين .

                                                      التفريع :

                                                      إن اعتبرناه فشرط ابن القطان في صحته أن يصح اقتضاؤه من الأصل ، كالشدة المطربة في الخمر . قال : وكان بعض أصحابنا إذا لم تقم الدلالة على أن التحريم والتحليل كان لأجله لم يكن دالا على صحة العلية ، لأن العلية هي الموجبة للحكم ، فلا يجوز أن يكون الفرع دالا على الأصل . قال : وكان أبو بكر الصيرفي يقول : اختلف أصحابنا في الجريان هل هو دال على صحة العلية أم لا ؟ على مذاهب :

                                                      أحدها : أنه دال عليها .

                                                      والثاني : أنه بانفراده لا يكون علة حتى لا تدفعه الأصول ، فإن دفعته لم يكن علة .

                                                      والثالث : أنه علة حتى يقوم دليل على صحته . قال : ولا فرق بين الأول والثاني . [ ص: 312 ] وقال غيره : إنه يفيد ظن علية المدار للدائر بشروط ثلاثة :

                                                      الأول : أن لا يكون المدار مقطوعا بعدم عليته ، كالرائحة الفائحة للخمر ، فإنا نقطع بأنها ليست علة للحرمة .

                                                      الثاني : أن يكون المدار متقدما على الدائر ، بحيث أن يقال : وجد الدائر فحينئذ لا يرد دوران المتضايفين ولا دوران الوصف مع الحكم ، لأن أحد المتضايفين ليس مقدما على الآخر ، ولا الحكم على الوصف .

                                                      الثالث : أن لا يقطع بوجود مزاحم يلزم من كون المدار علة إلغاؤه بالكلية ، فحينئذ لا يرد أجزاء العلة ، لأنه وإن كان المعلول كما دار مع العلة دار مع كل جزء من أجزائها لكن الحكم بأي جزء كان يوجب إلغاء سائر الأجزاء ، أو إلغاء المجموع بالكلية فيوجد لكل جزء مزاحم يمنع من الحكم بعليته ، وهذا بخلاف المجموع ، فإن كون المجموع علة ليس بموجب إلغاء الجزء بالكلية عن اعتبار الثاني ، بل لكل جزء مدخل في التأثير . وأما القائلون بعدم اعتباره فشرطوا شرطين :

                                                      أحدهما : أن يكون الوصف غير مناسب ، فإنه متى كان مناسبا كانت العلة صحيحة من جهة المناسبة ، صرح به الغزالي في " شفاء العليل " وإلكيا وابن برهان وغيرهم . قلت : وأما من يدعي القطع فيه فالظاهر أنه يشترط ظهور المناسبة ، ولا يكتفي بالدوران بمجرده ، فإذا انضم المناسبة ارتقى إلى القطع . ثم قال إلكيا : والحق أن الأمارة لا تطرد ولا تنعكس إلا إذا كانت اجتماع الفرع والأصل في مقصود خاص في حكم خاص ، فإن الأحكام إذا تباعد ما حدها لا يتصور أن تكون الأمارة الواحدة جارية فيها على نسق الإطراد والانعكاس ، كقول القائل في الطهارة : إنها وظيفة تشطر في وقت فافتقرت إلى النية ، كالصلاة ، فهذا لا يتصور انعكاسه ، وقد تطرد وتنعكس بعض الأمارات فإنها مجرى الحدود العقلية .

                                                      [ ص: 313 ] فالحاصل أن الاطراد والانعكاس من باب الأشباه الظاهرة ومن قبيل تنبيه الشرع على نصبه ضابطا لخاصة فعلقت به . ومما يتنبه له أن ما يوجد الحكم بوجودها وينعدم بعدمها ، كالإحصان ، فليس بتعليل اتفاقا من حيث إن الطرد والعكس إنما كان تعليلا للإشعار باجتماع الفرع والأصل في معنى مؤثر أو مصلحة لا يعلمها إلا الله ، فكان الاطراد من الشارع تنبيها على وجود معنى جملي اقتضى الاجتماع ولا يتحقق ذلك مع وجود المعنى الظاهر ، فإن الإيهام لا ميزان له مع وجود المعنى المصرح به .

                                                      الثاني : أن يتجرد الوصف ، فأما إذا انضم إليه سبر وتقسيم قال في " المستصفى " : يكون حينئذ حجة ، كما لو قال : هذا الحكم لا بد [ له ] من علة ، لأنه حدث بحدوث حادث ، ولا حادث يمكن أن يعلل به إلا كذا وكذا ، وقد بطل الكل إلا هذا فهو العلة . ومثل هذا السبر حجة في الطرد المحض ، وإن لم ينضم إليه العكس .

                                                      فائدة :

                                                      الدور يستلزم المدار والدائر ، فالمدار هو المدعى عليته ، كالقتل الموصوف ، والدائر هو المدعى معلوليته كوجوب القصاص .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية