الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      المسلك التاسع الطرد

                                                      وليس المراد به كون العلة لا تنتقض فذاك مقال العكس ، بل المراد أن لا تكون علته مناسبة ولا مؤثرة . والفرق بينه وبين الدوران أن ذلك عبارة عن المقارنة وجوبا وعدما . وهذا مقارن في الوجود دون العدم . وقال القاضي الحسين - فيما حكاه البغوي عنه في تعليقه : الطرد شيء أحدثه المتأخرون ، وهو حمل الفرع على الأصل بغير أوصاف الأصل من غير أن [ ص: 314 ] يكون لذلك الوصف تأثير في إثبات الحكم ، كقول بعض أصحابنا في نية الوضوء : عبادة يبطلها الحدث وتشطر بعذر السفر ، فيشترط فيها النية كالصلاة ، ولا تأثير للشطر بعذر السفر في إثبات النية . وكقول الحنفية في مس الذكر : معلق منكوس ، فلا ينتقض الوضوء بمسه دليله الدبوس . أو قالوا : طويل مشقوق ، فلا ينتقض بمسه كالقلم والبوق . قال : وهذا سخف يتحاشى الطفل عن ذكره ، فضلا عن الفقيه . انتهى .

                                                      وقال ابن السمعاني : هو الذي لا يناسب الحكم ولا يشعر به . وقال الإمام وأتباعه : هو الوصف الذي لا يكون مناسبا ولا مستلزما للمناسب وإلا لم تكن حاجة إلى الطرد ، ويكون الحكم حاصلا معه في جميع صور حصوله غير صورة النزاع ، فإن حصل في صورة النزاع كان دورانا . قال الهندي : هذا قول الأكثرين . ومنهم من قال : لا يشترط ذلك ، بل يكفي في علية الوصف الطردي أن يكون الحكم مقارنا له ولو في صورة واحدة . والصحيح الأول .

                                                      وقد اختلفوا في كونه حجة ، والقائلون بأن الطرد [ و ] العكس ليس بحجة ، ففي كون الطرد ليس بحجة من طريق الأولى ، فأما القائلون بحجية ذلك فقد اختلفوا في حجية الطرد ، فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة مطلقا ، وذهب بعضهم إلى أنه حجة مطلقا ، ومنهم من فصل وقال بحجيته بالتفسير الأول دون الثاني . والمعتبرون من النظار على أن التمسك به باطل ، لأنه من باب الهذيان . [ ص: 315 ]

                                                      قال إمام الحرمين : وتناهى القاضي في تغليط من يعتقد ربط حكم الله عز وجل به ، ونقله إلكيا عن الأكثرين من الأصوليين ، لأنه يجب تصحيح العلة في نفسها أولا ثم تعليق الحكم عليها ، فإنه ثمرة العلة ، فالاستثمار بعد التصحيح ، فلا يجوز أن يجعل ما حقه في الرتبة الثانية علما على ثبوت الأصل . قال : وقد رأينا في الطرد صورا لا يتخيل عاقل صحتها ، كتشبيه الصلاة بالطواف ، ونقله القاضي أبو الطيب في " شرح الكفاية " عن المحصلين من أصحابنا وأكثر الفقهاء والمتكلمين . وقال القاضي الحسين - فيما نقله البغوي في " تعليقه " عنه : - لا يجوز أن يدان الله به . وقال ابن الصباغ في " العدة " : الطرد جريان العلة في معلولاتها وسلامتها من أصل يردها وينفيها . والأكثرون على أنه لا يدل على صحتها . وذهب طوائف من الحنفية إلى أنه حجة ، ومال إليه الإمام الرازي ، وجزم به البيضاوي . قال ابن السمعاني : وحكاه الشيخ في التبصرة عن الصيرفي . وهذا فيه نظر . فإن ذاك في الاطراد الذي هو الدوران . وقال الكرخي : هو مقبول جدلا ، ولا يسوغ التعويل عليه عملا ، ولا الفتوى به .

                                                      وقال القاضي أبو الطيب : ذهب بعض متأخري أصحابنا إلى أنه يدل على صحة العلية ، واقتدى به قوم من أصحاب أبي حنيفة بالعراق ، فصاروا يطردون الأوصاف على مذاهبهم ويقولون . إنها قد صحت ، كقولهم في مس الذكر : مس آلة الحرث فلا ينتقض الوضوء ، كما إذا مس الفدان . وإنه طويل مشقوق فأشبه البوق . وفي السعي بين الصفا والمروة : إنه سعي بين جبلين ، فلا يكون ركنا في الحج . كالسعي بين جبلين بنيسابور . ولا يشك عاقل أن هذا سخف . قال ابن السمعاني : وسمى أبو زيد الذين يجعلون الطرد [ ص: 316 ] حجة ، والاطراد دليلا على صحة العلية " حشوية أهل القياس " قال : ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء . قال ابن السمعاني : ويجوز للشارع نصب الطرد علما عليه لكنه لا يكون علة بل تقريب للحكم وتحديد له . قال : وذكر القاضي أبو الطيب أن الاطراد زيادة دعوى على دعوى ، والدعوى لا تثبت بزيادة دعوى ، ولأن القياس الفاسد قد يطرد ، ولو كان الاطراد دليل صحة العلية لم يقم هذا الدليل على الأقيسة الفاسدة المطردة ، مثل قول من يقول في إزالة النجاسة بغير الماء : مائع لا تبنى عليه القناطر ، ولا يصاد منه السمك ، فأشبه الدهن والمرقة . وفي المضمضة : اصطكاك الأجرام العلوية فوجب أن لا ينقض الطهارة ، كالرعد ولا يلزم الضراط لأنه اصطكاك الأجرام السفلية . قال القاضي : هذا مع سخفه ينتقض بما لو صفع امرأته وصفعته . والاشتغال بهذا هزأة ولعب في الدين . انتهى . وقال الكرخي : هو مقبول جدلا ، ولا يسوغ التعويل عليه عملا . وهو ظاهر كلام الغزالي . وقال : إنه رأي المشايخ المتقدمين ، وقال : هو مصلحة للمناظر في حق من أثبت الشبه ورآه معتمدا ، بل لا طريق سواه ، فإما أن يصار إلى إبطال الشبه رأسا ، وقصر الجامع على المخيل ، وإما أن يقبل من المناظر الجميع على الإطلاق . وهاهنا أمور ذكرها إلكيا :

                                                      أحدها : أن هذا كله في غير المحسوسات . أما المحسوسات فقد تكون صحيحة مثل ما نعلمه أن البرق يستعقب صوت الرعد فلهذا اطرد وغلب على الظن به

                                                      الثاني : أن الخلاف في هذه المسألة لفظي ، فإن أحدا لا ينكره إذا غلب على الظن ، وأحدا لا يتبع كل وصف لا يغلب على الظن ، وإن أحالوا اطرادا لا ينفك عن غلبة الظن .

                                                      الثالث : إذا قلنا بأنه ليس بحجة ، فهل يجوز التعلق به لدفع النقض [ ص: 317 ] أم لا ؟ قال إلكيا : فيه تفصيل : فإن كان يرجع ما قيد الكلام به إلى تخصيص العلة بحكمها فالكلام في تخصيص العلة سبق ، وإن كان التقييد كما قيد به تقييدا بما يظهر تقيد من الشرع الحكم به . وصورة النقض آيلة إلى استثناء الشرع ، فلا يمنع من هذا التخصيص كما إذا علل إيجاب القصاص على القاتل فنقض بالأب فلا يمنع من هذا التخصيص ، وإن كان يدل على معنى في عرف الفقهاء إلا اللغة وذلك المعنى صالح لأن يجعل وصفا ومناطا للحكم ، فيجوز دفع النقض به ، كقولنا : ما لا يتجزأ في الطلاق فذكر بعضه كذكر كله ، فلا يلزم عليها النكاح ، فإن كان النكاح ينبئ في الشرع عن خصائص ومزايا في القوة لا يلغى في غيره فيندفع النقض .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية