الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      السادس عشر : أن لا يكون عدما في الحكم الثبوتي عند الإمام الرازي وغيره وخالفه الآمدي . واعلم أنه يجوز تعليل الحكم العدمي بمثله [ ص: 189 ] والعدمي بالوجودي بلا خلاف . وإنما اختلفوا في تعليل الوجودي بالعدمي على قولين : فذهب أكثر المتقدمين ، منهم القاضي أبو بكر الطيب الطبري ، والشيخ أبو إسحاق ، وأبو الوليد الباجي إلى الجواز ، لأن لا معنى للعلة إلا المعرف وهو غير مناف للعدم . ومثاله علة تحريم متروك التسمية عدم ذكر اسم الله ، وذهب القاضي أبو حامد المروروذي ، كما قاله الشيخ أبو إسحاق في " التبصرة " إلى المنع ، لأن الحكم لا يثبت إلا بوجود معنى يقتضي ثبوته ، والنفي عدم معنى فلا يجوز أن يوجب الحكم . والأولون يقولون : لا بد وأن يكون مناسبا ولأنه أشبه بالعلل العقلية . ومن حجة المانع أن العلة يجب أن تكون منشأ للحكمة كالسرقة المنصوبة علة للقطع ، فإنها منشأ الحكمة ، إذ كونها جناية ومفسدة إنما نشأ من ذاتها لا من خارج عنها . وهذا منازع فيه ، فإن العلة لا يشترط فيها ذلك ، بل يكفي كونها أمارة على الحكمة وحينئذ فالعدم يصلح أن يكون أمارة عليها ، وقد ساعد الخصم على جواز تعليل العدم بالعدم وهو اعتراف منه بإمكان جعل العدم أمارة ، وإذا أمكن ذلك في طرف العدم أمكن في الطرف الآخر لأن الظهور لا يختلف .

                                                      وقال الأستاذ أبو منصور : أنكره قوم في العقليات والشرعيات ، وجوزه آخرون فيهما جميعا ، قال : وفصل أكثر أصحابنا فجوزه في الشرعيات دون العقليات . وقد قال الشافعي - فيما رد على العراقيين - في خراج البيع من غلة وثمرة وولد إن ذلك كله مما لم يقع عليه صفقة البيع . وقال المزني في إباحة القصر : لمن لم يكن عزم على المقام وقال إلكيا : إن كان الحكم من قبيل الأحكام الجزئية المبنية على الأصول تطرق القياس إليه من جهتي الإثبات والنفي ، كقولنا : لا كفارة على الأكل ولا على من أفطر ظنا وإن أمكن تلقيه من أمارة غير القياس لم يمتنع تلقيه من القياس . وقال الهندي : الحكم والعلة إما أن يكون ثبوتيين ، كثبوت الربا لعلة [ ص: 190 ] الطعم ، أو عدميين ، كعدم صحة البيع لعدم الرضا ، وهذان القسمان لا نزاع فيهما . هكذا ذكره الإمام ، وفيه نظر ، فإن من يجعل العلة ثبوتية ينبغي أن لا يجوز قياسها بالعدم ، سواء كان علة الحكم الثبوتي أو العدمي . وإما أن تكون العلة ثبوتية والحكم عدميا ، كعدم وجوب الزكاة لثبوت الدين وهذا القسم تسميه الفقهاء " تعليلا بالمانع " وهو مبني على جواز تخصيص العلة . واختلفوا في أنه هل من شرط وجود المقتضى أم لا ؟ وإما أن تكون العلة عدمية والحكم ثبوتيا ، كاستقرار الملك لعدم الفسخ في زمان الخيار ، وهذا موضع الخلاف ، والمشهور عدم الجواز . انتهى وممن اختاره الآمدي وابن الحاجب وصاحب " التنقيح " والإمام في " المعالم " واختار في " المحصول " الجواز وقال في " الرسالة البهائية " : إن كان الوصف ضابطا لحكمة مصلحة يلزم حصول المفسدة عند ارتفاعها كان عدم ذلك الوصف ضابطا لتلك المفسدة ، فيكون ذلك العدم مناسبا للحرمة .

                                                      وقال ابن المنير : المختار أن النفي لا يكون علة للحكم الثبوتي ولا للنفي ، لأن النفي المفروض علته لا يجوز أن يكون النفي المطلق باتفاق ، فتعين أن يكون نفيا مضافا إلى أمر ، وذلك الأمر إن كان منشأ مصلحة استحال أن يعلل بنفيه حكم ثبوتي ، إذ عدم المصلحة لا يكون علة في الحكم وإن كان منشأ مفسدة فهو مانع ، ونفي المانع لا يكون علة وإن كانت العلة بمعنى " المعرف " جاز أن يكون العدم علة للوجود . وإن كان المراد جميع ما يتوقف عليه الشيء جاز أن يكون بعض أجزاء العلة أمرا عدميا ، بدليل أن وجود الضد في المحل يقتضي عدم الضد الآخر في المحل ، فقد صار العدم جزءا من العلة ولكن يمتنع أن يكون جميع أجزائها عدميا لاستحالة كون العدم الصرف علة للأمر الوجودي والعلم به . وإن كان المراد بالعلة هو المعنى الموجود استحال أن يكون شيء من أجزائه عدميا ، لأن العدم لا يكون جزءا من العلة المعينة الموجودة والعلم به ضروري . [ ص: 191 ]

                                                      تنبيهات الأول

                                                      قال بعض المتأخرين : التحقيق أن محل الخلاف لا يتصور ، لأنه إن كان في العدم المحض الذي ليس فيه إضافة إلى شيء فلا يعلل به قطعا ، وإن كان في الأعدام المضافة فيصح أن يعلل بها قطعا ، كما تكون شروطا ، خصوصا في الشرعية فهي أمارات . فليتأمل . وجعل النصير الطوسي في " شرح التحصيل " الخلاف في العدم المقيد ، كما يقال : عدم المال علة الفقر ، أما المطلق فلا يعلل ولا يعلل به قطعا . الثاني

                                                      أن الخلاف يجري في الجزء أيضا ، فالمانعون اشترطوا أن لا يكون العدم جزءا من العلة كما يكون كلا . والمجوزون في الكل جوزوه في الجزء .

                                                      الثالث لو ورد من الشرع لفظ يدل بظاهره على ثبوت تعليل الثبوت بالعدم نحو : أثبت حكم بهذا العدم كذا فقال البزدوي - وهو من المانعين - : يتعين تأويل اللفظ وحمله على غير التعليل من تأقيت أو غيره ، جمعا بين الدليلين . ورد عليه بأن التعليل عنده عبارة عن نصب الأمارة خاصة ، فإذا حمل الكلام على التأقيت رجع إلى الأمارة فكأنه فر من التعليل فوقع في التعليل فرعان :

                                                      أحدهما : القائلون بأن العدم لا يعلل قالوا : إن المعدوم والموجود رتبة ثالثة وهي [ ص: 192 ] النسب والإضافات ، وجوزوا التعليل بها وقالوا : ليس من شروط العلة أن يكون أمرا وجوديا ، بل من شروطها ألا تكون عدمية ، ثم تارة تكون أمرا وجوديا ، وتارة تكون أمرا معلوما من قبيل النسب والإضافات . وبه يظهر المعنى في قولهم : " أن لا يكون عدميا " ولم يقولوا : " أن يكون وجوديا " . ومثاله قولنا : البنوة مقدمة على الأبوة ، وهذا علة الميراث وهما إضافيان ذهنيان لا وجود لهما في الأعيان . وقد اختلف في التعليل به ، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز . والحق ابتناء هذا الخلاف على أن الإضافيات من الأمور العدمية أو الوجودية ، فإن قلنا : عدمية فالكلام فيه كما سبق في العدمي ، وإن قلنا : وجودية فهي كالحكم الشرعي لأنه ليس فيه معنى مناسب فهو علة بمعنى الأمارة .

                                                      الثاني : الوصف التقديري هو كالعدمي ، لأنه معدوم في الخارج ، وإنما قدر له وجود للضرورة فيما يخرجه عن كونه عدميا تعليل ثبوت الولاء لمعتق عنه بتقدير ثبوت الملك له ، وتوريث الدية بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في الزمن الفرد ، فإنه حي لا يستحقها ، وما لا يملك لا يورث عنه ، والملك بعد الموت محال ، فيصير تقدير الملك قبل الزهوق . والخلاف فيه أضعف من الخلاف في العدمي .

                                                      تنبيه

                                                      امتناع الشيء متى دار استناده إلى عدم المقتضى أو وجود المانع ، كان استناده إلى عدم المقتضى أولى ، لأنا لو أسندناه إلى وجود المانع لكان المقتضى قد وجد وتخلف أثره والأصل عدمه ، وهذا كتعليلهم عدم صحة بيع الصبي بعدم التكليف أولى من التعليل بالصبا . وفيه الخلاف في تعليلهم منع إطلاقهم [ ص: 193 ] كافر " على من أسلم باعتبار ما كان عليه ، فقال الجمهور : لوجود المانع الشرعي ، وقال ابن الحاجب : لعدم المقتضى وهو عدم المشتق منه حالة الإطلاق .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية