الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      تنبيهات

                                                      الأول : ما ذكرناه أن هذا النوع من المسالك هو المشهور ونازع فيه جماعة من المتأخرين ، منهم أبو العباس القرطبي في جدله فقال : إنه شرط لا دليل ، لأن الوصف الذي ينفيه السبر إما أن يقطع بمناسبته فهو التخريج ، أو يعرو عنها فهو الطردي ولا يصح أن يعلل به ، أو لا يقطع بوجوده فيه ولا عدمها فهو الشبه ، فلا بد في العلة من اعتبار وجود المصلحة أو صلاحيتها لذلك . ويلزم منه ما ذكرناه . إلا أن التقسيم إذا كان دائرا بين النفي والإثبات فأبطل أحد القسمين مثلا تعين المطلوب في الثاني قطعا ، كقولنا : العالم إما قديم وإما حادث ، محال أن يكون قديما لكذا ، فلزم أن يكون حادثا ، فإن هذا ونحوه برهان قطعي ، وهو المسمى عند المنطقي ب " الشرطي المتصل " .

                                                      وقال في " أصوله " : أكثر النظار عدوا هذا المسلك دليلا على التعليل ، وفيه نظر . وذلك أن ما ينفيه السبر لا بد وأن يكون ظاهر المناسبة ، وهو قياس العلة ، أو صالحا لها ، وهو الشبه ، فالتحقيق أن يقال على التعليل هنا هو المناسبة ، غير أن السبر عين دليل الوصف ، فالسبر إذن شرط ، لا دليل ، وكذلك في سائر المسالك النظرية ، فليس مسلكا بنفسه ، بل هو شرط المسالك النظرية . وقد حكي عن قوم من الأصوليين في الدوران أنه شرط للعلة لا تثبت مع دليل عليها ، وهو يتمشى مع ما ذكرناه في السبر ، وهو الصحيح . انتهى . [ ص: 288 ] وقد جزم الغزالي في المستصفى بأنه إذا استقام لم يحتج إلى مناسبة ، ونازعه شارحه العبدري أيضا ، لاعتقاده بأن السبر ليس من مسائل العلة ، وإنما هو خادم للوصف المناسب ، أي به يتقيد الوصف المناسب المختلط بغيره . وقال الإبياري في شرح البرهان : السبر يرجع إلى اختبار في أوصاف المحل وضبطها ، والتقسيم يرجع إلى إبطال ما يظهر إبطاله فيها ، فإذن لا يكون من الأدلة بحال . وإنما تسامح الأصوليون بذلك لأن المراد بالدليل هو الذي دل على أن العلة في جملة الأوصاف ، والدليل الثاني دل على التعيين . وإلا فالسبر والتقسيم ليس هو دليلا قال : ولا بد فيه من ثلاثة أمور :

                                                      إحداها : أن يتبين المطلوب في الجملة :

                                                      وثانيها : سبر خاص .

                                                      وثالثها : إبطال ما عدا المختار . فإن كانت هذه معلومة حصل العلم بالمطلوب وإلا فلا ، بل تحصل غلبة الظن . ثم إن كان الموضع مما يكتفى فيه بغلبة الظن اكتفي به وإلا فلا قال : وهذا لا يتصور فيه خلاف وليس كما قال . وقال ابن المنير في شرحه : زعم بعض المتأخرين أن السبر إذا دار بين النفي والإثبات فهو التقسيم ، وعليه المعول في العقليات ، وإلا فهو السبر ، وليس كما زعم ، بل السبر والتقسيم متغايران متلازمان في الدلالة في العقليات وفي الفقهيات سواء دارت القسمة بين النفي والإثبات أم لا . فالسبر إذن في العقليات : اختبار المقدرات لينظر أيها الحق . والتقسيم أن يقسم الصحة والبطلان بينهما فيعتبر ما هو العلة ، ويلغي ما ليس بعلة . وقد بان لك بهذا أن الدليل ليس نفس السبر والتقسيم ، وإنما الدليل هو الذي أوجب إضافة العلية إلى العلة ، وهو الإجماع على أن أحد الأوصاف علة مع دليل إلغاء سائر الأوصاف إلا المبقى فيتعين ، وتقرير الإجماع على أن أحد [ ص: 289 ] الأوصاف علة الاستقراء من سبر الأولين فإنهم عللوا الأحكام بجملتها ، أو عللوا أكثرها ، والأكثرية ملحقة بالعموم ، وحكموا بأن العلة لا تعدو أوصاف المحل ، فيجب إلحاق كل صورة بالعام أو بالأغلب . وتقرير إبطال ما عدا المبقى يكون بأدلة الإبطال ، كبيان أن الأوصاف طردية ، أو لا مناسبة فيها ، أو يقول : بحثت فلم تظهر لي مناسبة قال : وفي الاكتفاء بالثاني إشكال ، فإن المبقى لم تظهر مناسبته أيضا ، وإلا بطلت فائدة السبر وخصوصيته . وكبيان الإلغاء في الأوصاف لوجود الحكم في غير محل النزاع بالمبقى منفردا عن غيره من الأوصاف ، فيندفع احتمال أن يكون المبقى جزء علة مع بقية الأوصاف .

                                                      ( قال ) : ومن الأسئلة العاصمة لمسلك السبر والتقسيم أن المبقى لا يخلو في نفس الأمر أن يكون مناسبا ، أو شبها ، أو طردا خاليا ، لأنه إما أن يشتمل على مصلحة أو لا ، فإن اشتمل على مصلحة فإما أن تكون منضبطة للفهم ، أو كلية لا تنضبط .

                                                      فالأول : المناسب .

                                                      والثاني : الشبه . وإن لم يشتمل على مصلحة أصلا فهو الطرد المردود . فإن كان ثم مناسبة أو شبه لغا السبر والتقسيم . فإن كان عريا عن المناسبة قطعا لم ينفع السبر والتقسيم أيضا . فإن قلت : ينفع في حمل النظر في المناسبة على المجتهد . قلت : لا يحمل ذلك عنه ، لأن المناسبة عندنا أمر وجودي مكشوف ، حتى يقال : إنه ذوقي أو ضروري كالمحسوس ، فالمجتهد إذا يعلمه إذا لم يذق فيه مصلحة منضبطة ولا غيرها أنه لا مناسب ولا شبه فتعين أنه طرد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية